دعوة

الوسطية في الإسلام -1

الوسطية مأخوذة من كلمة (وسط) وهي تستعمل في معان عدة، فتأتي بمعنى: الخيار والعدل، وتستعمل لما كان بين شرين وهو خير، وقد جاء وصف الأمة بالوسطية في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة: 143). وسطاً: كاملين معتدلين، (لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ).
وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الوسط في الآية بمعنى: «العدل» كما في البخاري (5/ 151). وقد أمر الله تعالى بالعدل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ…) وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ) فدين الله تعالى وسطٌ بين الغلو والجفاء، والإفراط والتفريط، وهذا هو الصراط المستقيم الذي أُمرنا أن نسأل الله تعالى أن يهدينا إليه، كلَّ يومٍ في صلاتنا بقولنا (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْـمُسْتَقِيمَü صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْـمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ).

والذين أنعم الله عليهم قد بيَّنهم الله تعالى بقوله: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) (النساء: 69).

* وأما المغضوب عليهم والضالون فهم: اليهود والنصارى كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذين فارقوا الصراط المستقيم تارة بالغلو والإفراط، وتارة بالجفاء والتفريط، وقد خاطبهم الله تعالى بقوله: (قُلْ ىَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْـحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ) (المائدة: 77).

قال الطبري: «يقول: لا تفرطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح فتجاوزوا فيه الحق إلى الباطل، فتقولوا فيه: هو الله، أو هو ابنه، ولكن قولوا: هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه» (التفسير: 6/ 316).

ü تشهد هذه الأمة على الأمم السابقة حين تنكر الرسالات وتفتري الكذب خديث نوح عليه السلام… (خ 8/ 171).

وقد وردت الأحاديث التي تحذر من الغلو:

1- فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جمع (المزدلفة): «هلمَّ القط لي الحصى» فلقطت له حصيات من حصى الخذف، فلما وضعهن في يده قال: «نعم، بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وغيرهم وهو صحيح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، وسبب هذا اللفظ العام: رمي الجمار، وهو داخل فيه، مثل الرمي بالحجارة الكبار بناء على أنها أبلغ من الصغار، ثم علله بما يقضي مجانبة هديهم، أي: هدي من كان قبلنا إبعاداً عن الوقوع فيما هلكوا به، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك. انتهى (تيسير العزيز الحميد صـ 275).

وكم في المسلمين اليوم من يخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم ويقع في الغلو برميه بالحصى الكبار، فيغلو في دينه ويؤذي إخوانه.

2- وقال صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثاً رواه مسلم.
والمتنطعون: المتعمقون المغالون المجاوزون الحدودو في أقوالهم وأفعالهم. قاله النووي في شرح مسلم: (16/ 220).

3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا الدين يسرٌ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء عن الدلجة» أخرجه البخاري.
قال ابن حجر: والمعنى: لا يتعمق أحدٌ في الأعمال الدينية، ويترك الرفق إلا عجز وانقطع، فيغلب. (الفتح: 1/ 94).

4- وعن عبد الرحمن بن شبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اقرؤا القرآن ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه» أخرجه الإمام أحمد.
قال المناوي: ولا تغلوا فيه: تجاوزا حدَّه من حيث لفظه أو معناه بأن تتأولوه بباطل، أو المراد: لا تبذلوا جهدكم في قراءته وتتركوا غيره من العبادات، فالجفاء عنه: القصير، والغلو التعمق فيه، وكلاهما شنيع، وقد أمر الله بالتوسط في الأمور فقال: (وَلَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) فيض القدير: (2/ 64).

*كما جاء في القرآن التحذير من التفريط والتساهل، قال تعالى: (وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف: 28).
وقال تعالى: (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرتَا عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللهِ وَإِن كُنتُ لَـمِنَ السَّاخِرِينَ) (الزمر: 56).
قال الطبري: (24/ 19): يقول: على ما ضيعت من العمل بما أمرني الله به، وقصَّرت في الدنيا في طاعة الله.

وقال صلى الله عليه وسلم: «أما إنه ليس في النوم تفريطٌ، إنما التفريط على مَن لم يُصلِّ الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى…. » رواه مسلم (1/ 473).
قال بعض السلف: ما أمرَ الله تعالى بأمرٍ إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزةٍ وغلو، ولا يبالي بأيهما ظَفر.

قال ابن القيم رحمه الله: «وقد اقتُطع أكثر الناس إلا أقلَّ القليل في هذين الواديين: وادي التقصير، ووادي المجاوزة والتعدي، والقليل الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه» (إغاثة اللهفان 1/ 116).

وبهذا تعلم غربة من ثبت على الوسطية وقلتهم في كل زمان ومكان.

ولعلنا في مقال قادم نستعرض أنواعاً من الغلو والجفاء الذي وقع فيه طوائف من هذه الأمة.

نسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يجعلنا من الأمة الوسط وأن يعافينا من هذين المرضين، إنه سميع قريب مجيب والحمد لله رب العالمين.

* كل خير وفضل ثبت لهذه الأمة، فلأهل السنة والجماعة منه الحظ الأوفر والقدح المعلَّى.

فهم الطائفة التي تتحقق فيها الوسطية المطلقة لهذه الأمة

زر الذهاب إلى الأعلى