فقه

شرح القواعد الفقهية للسعدي -3 –

شرح القواعد الفقهية

للسعدي

(20) والأصل في الإبضاع واللحوم               

          والنفس والأمـوال للمعصـوم

(21)  تحريمها حتى يجيء  الحــل             

            فافهم هداك الله مـا يمــلُّ

   الإبضاع والمباضعة هو الجماع ، فالأصل في الإبضاع وهو وطءُ النساء التحريم ، يعني الأصل في المرأة أنها محرمة عليك ، الأصل في النساء أنهن محرمات عليك إلا ما أبيحت لك بالعقد الشرعي الصحيح ، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث حجة الوداع (( فاتقوا الله في النساء فأنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ))(1) يعني هو استحل فرجها بالعقد بكلمة الله سبحانه وتعالى لأنه عقد العقد واستحل ذلك بما أحل الله له في كتابه ، بكلمات الله عز وجل التي في   كتابه ، فقد ذكر له المحرمات من النساء كالأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهات النساء إلى أن قال { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين }(2) فإذاً الأصل في الإبضاع التحريم ويصح أن يقال : الأصل في الأبضاع ، والأبضاع يعني الفروج ، الأصل فيها التحريم أيضاً ، واللحوم كذلك الأصل فيها التحريم ، حتى نتيقن ذكاتها وأنها مما أحل الله سبحانه وتعالى لنا أكلها ، فالأصل فيها التحريم إلا إذا علمنا تحقق شروط الذكاة الشرعية ، من كونها ذبحت في اللبة وقطعت أوداجها وذكر اسم عليها ، ولم تكن مما أهل به لغير الله ، ولهذا إذا اجتمع في الذبيحة سببان : مبيح وحاظر ، قُدَّم الحاظر ، مثل لو أن رجلاً ذكى شاة ثم تبين له أن آلة الذبح مسمومة ، فلا يدري هل ماتت بالذكاة أو بالسم ،

 ومثل ذلك أيضاً حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصيد إذا رماه الإنسان ثم وقع في الماء فلا يدري أمات بالسهم أو قتله الماء(3) ، يعني مات خنقاً بالماء ،  أو رمى صيداً ثم وطأه ما يقتل غالباً ، مثل لو ضرب حمامة ، ثم أثناء البحث عليها داسها بقدمه لكونها تحت الورق أو تحت الشجر ولم يرها ، فهو لا يدري هل ماتت بالرمية أو ماتت بالوطء فلا يحل ، وكذلك الأصل في النفوس أنها معصومة يعني محرمة الدم والمال والعرض ، فلا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كما جاء في الحديث (( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة ))(4) فلا تباح إذاً النفوس إلا بحق ،  فتباح بردة المسلم ، تباح بزنى المحصن المتزوج ، وتباح أيضاً بقتله لنفس معصومة ، وكذلك المعاهد الأصل فيه أنه محفوظ الدم والمال والعرض ، فلا يباح دمه إلا إذا نقض العهد ، بأن سب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً ، أو سب دين الإسلام ، أو سب المسلمين ، أو زنى بمسلمةٍ وما أشبه ذلك من الجرائم التي تبيح قتله 0

كذلك إذا جنى الإنسان جناية توجب قطع عضو منه كسرقة مثلاً ، فإنه يقطع منه بقدر ما يقابل تلك الجناية والجريمة ، لأن الأصل في الباقي العصمة ، يعني إذا سرق إنسان  لا نقتله ، لأنه جنى جناية توجب قطع يده فقط ، ولا تقطع يده الثانية ، لأن الثانية الأصل فيها أنها معصومة ، تقطع الكف اليمنى ، وأما اليسرى فالأصل أنها معصومة ،  لأن العقوبة بقدر الجناية ، وكذلك إذا استدان وعنده القدرة على السداد ولم يسدد ، يؤخذ من ماله بقدر سداد دينه ، إنسان استدان خمسمائة دينار وهو غني قادر على أن يسدد ،  يعني مماطل وهذا ظلم ، وهذا الظلم يحل عقوبته كما قال عليه الصلاة والسلام (( ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته ))(5) يعني يجوز أن يأتي الدائن ويقول إن فلاناً قد استدان مني ولم يرجع المال إلىّ ، هنا تكلم في عرضه في غيبته ، لكن هل يجوز أن يقول فلان تأخر عن الصلاة لا ، لا يجوز ، إنما يحل لك من عرضه بقدر ما أخطأ في حقك ،  ثم إذا جيء به إلى القاضي يؤخذ من ماله بقدر دينه ، لأنه حلّ من ماله وعرضه بقدر جنايته وجريمته ، وكذلك لو كان الديَّن لله سبحانه وتعالى فإنه يؤخذ منه بقدر هذا الدين ، وكذا لو كانت عليه نفقة للأقارب وماطل بنفقة أقاربه الذين تجب عليه النفقة لهم فيؤخذ منه نفقتهم ، وكذا لو كان عنده بهائم امتنع عن الإنفاق عليها فأنه يؤخذ من ماله بقدر ما يكفي البهائم ، ولو نزل به ضيف حلّ له أن يأخذ من ماله بقدر ضيافته ، يعني لو نزل ضيف برجل لئيم بخيل فلم يقم بحق ضيافته ، فإنه يحق للضيف أن يأخذ من ماله بقدر ضيافته ، مثل أن يدخل إلى بستانه ويأكل ويتغدى ويشبع بقدر ضيافته ، لأن هذا حق للضيف واجب في مال هذا المضيف فإذا امتنع يؤخذ من ماله بقدر ما يجب عليه من الحق ، فإذاً الأصل في الإبضاع التحريم ، والأصل في اللحوم أنها محرمة ،  والأصل في الأنفس والأموال أنها معصومة حتى يجيء الحل ، فافهم هداك الله ما يُمل عليك ، يعني ما يُملى عليك من العلم 0

(22) والأصل في عاداتنـا الإباحَهْ                     

         حتى يجيء صارف الإباحَــهْ

(23) وليس مشروعاً من الأمـور                   

        غير الذي في شرعنـا مذكــورْ

        وهذان أصلان ذكر الناظم رحمه الله تعالى أن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قد ذكرهما في كتبه ، وأن هذا من الأصول التي بنى عليها الإمام أحمد مذهبه ، ألا وهو أن الأصل في العادات الإباحة فلا يحرم منها إلا ما ورد الشرع بتحريمه ، بخلاف العبادات فهي بالعكس ، الأصل فيها التحريم حتى يجيء الشرع بها ، فكل عبادة يحرم التعبد فيها لله عز وجل سوى ما جاء في شرعنا مذكوراً ، فلا يحل للعبد أن يتعبد الله عز وجل بعبادة لم يشرعها الله عز وجل ، والركنان اللذان ذكرهما الله تعالى في كتابه وشرط قبول الأعمال بهما ، الأول :إخلاص العبادة ، الثاني : المتابعة ، فلا بد من توفر هذين الشرطين في كل عبادة لتقبل { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا }(6) 0

فلا يكون العمل صالحاً إلا إذا شهد له الشرع بذلك ، فالعمل الصالح ما وردت مشروعيته في الكتاب والسنة وما ليس كذلك فليس من الأعمال الصالحة ، ولا يجوز أن نتعبد الله تعالى به ، ولهذا قال العلماء : من عبد الله بما شرع فهو عابد لمولاه ، ومن عبد الله بما لم يشرع فهو عابد لهواه 0

إذاً لا يكفي حسن النية والإخلاص وحب الله تعالى ورسوله والاندفاع والحماس فإن هذا لا يكفي لقبول العمل ، كم من مريد للخير لم يبلغه كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ، كم من إنسان يريد الخير لكنّه لا يسلك الطريق الشرعي فلا يؤجر على فعله بل يقع في الإثم ، لأنه يقع في مخالفة الشرع بالابتداع ، والمبتدع مأزور غير مأجور ، فلا يجوز للعبد إذن أن يعبد الله عز وجل إلا بما شرع ، لا يجوز له أن يخترع عبادة ، أو سبيلاً من سبل القربة إلى الله عز وجل ، إلا إذا كان الله سبحانه وتعالى قد أمر بها في كتابه ، أو أمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم 0

والعادات هي كل ما اعتاده الناس في مآكلهم ومشاربهم وملابسهم وكلامهم وبيوتهم وتصرفاتهم ، فلا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله ، إما أن ينص عليها أو أن يدخل في عموم نص أو قياس صحيح ، إذا كانت العادة مخالفة للكتاب أو للسنة فإننا نقضي بتحريمها ، أما إذا لم تخالف الكتاب والسنة فإن الأصل فيها الإباحة ، والدليل الذي استدل به الإمام أحمد وغيره على ذلك هو قول الله عز وجل { هو الذي خلق لكم ما في الأرض  جميعاً }(7) فالأصل أن هذه المخلوقات من المطعومات والمشروبات والنباتات والحيوانات والملابس التي تتخذ من الوبر والشعر والقطن والكتّان والصوف والحرير ، كل ذلك الأصل فيه الإباحة حتى يجيء دليل التحريم ، فخلق الله لنا ما في الأرض جميعه لننتفع به على أي وجه من وجوه الانتفاع ، وقال الله تعالى { والأرض وضعها للأنام }(8) أي لانتفاع الناس ، وكذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم     (( إن من أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيءٍ لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته ))(9) فهذا دليل على أن الأصل الذي عليه أهل الإسلام من العادات والمعاملات الأصل فيها الحل حتى يجيء دليل التحريم فيبقى لهم ما أبقاه النص ، والله تعالى قد خص من ذلك بعض الأشياء وهي الخبائث   لما فيها من الضرر عليهم في معاشهم وفي معادهم ، وتضرهم في دينهم ودنياهم ، فيبقى ما عدا ذلك مباحاً بموجب الآية ، لأن الله تعالى يخبر أن النبي عليه الصلاة والسلام من رسالته أن يحرم عليهم الخبائث ويحل لهم الطيبات ، وأما العبادات فكما ذكرنا من تعبد الله بما لم يشرع فهو مبتدع عمله مردود عليه كما قال عليه الصلاة والسلام   (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ))(10) وقال الله قبل ذلك { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به  الله }(11) 0

(24) وسائـل الأمــور كـالــمقاصـد                

     واحكـم بهــذا الحكـم للــزوائـــد

     وسائل الأمور كالمقاصد يعني أن الوسائل تعطى أحكام المقاصد ، فإذا كان المقصد واجباً كانت الوسيلة إليه واجبة ، المأمور به إذا كان لا يتم إلا بشيء آخر فهو مأمور به أيضاً ، الأمر الواجب إذا كان لا يتم إلا بأمر آخر يعطى هذا الأمر حكم الوجوب ، وإذا كان هذا المأمور به مستحباً فإن الوسيلة إليه تكون مستحبة ، فالوسائل تعطى أحكام المقاصد ، وإذا كان هذا الأمر منهياً عنه كانت الوسيلة الموصلة إليه منهياً عنها أيضاً ، يعني إذا كان حراماً فالوسيلة الموصلة إليه حرام ، إذا كان مكروهاً فالوسيلة الموصلة إلى هذا المكروه مكروهة أيضاً ، فالوسيلة إلى الواجب واجبة ،  والوسيلة إلى المستحب مستحبة ، والوسيلة إلى المحرم محرمة ، والوسيلة إلى المكروه           مكروهة ، فالوسيلة إلى الواجب مثالها : صلاة الجماعة لا تتم إلا بالسعي إلي المساجد فصار السعي إلي المسجد والمشي إليه واجباً ، لأنها لا تتم الجماعة إلا به ، صلاة الجماعة لا تتم إلا ببناء مسجد فيكون بناء المسجد واجباً ، الحج لا يتم إلا بالسفر إليه إذا كان الإنسان خارج المسجد الحرام ، فيكون السفر إلى الحج الواجب واجباً ، الجهاد الواجب لا يتم إلا بالسفر مثلاً فيكون السفر إليه واجباً ، هذه حقوق الله 0

وكذلك الحقوق الواجبة على الإنسان للعباد مثل : الإنفاق على الزوجة والولد حكمه الوجوب فيكون السعي لتحصيل النفقة الواجبة واجباً ، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول (( كفى بالمرء إثماً أن يضيّع من يقوت ))(12) فكذلك الأمر في حقوق العباد ، فما لا تتم هذه الأمور إلا به فهو واجب ، وأما الأمور المستحبة المسنونة من الصلوات والصدقات وما أشبه ذلك فأيضاً السعي في تحصيلها مسنون مستحب ، والمتعلقة أيضاً بحقوق الخلق المستحبة مثل عيادة المريض ، واتبّاع الجنائز ، وصلة الأرحام ، والذهاب إلى مجالس العلم وما أشبه ذلك ، مما هو مستحب في حق العبد يكون السعي إليه مستحباً 0

أما المحرّم فإن الوسيلة إليه محرمة ، وأعظم المحرمات الشرك بالله العظيم ، فوسائل الشرك والذرائع الموصلة إلى الشرك محرمة ، منها : الحلف بغير الله هذه من الذرائع الموصلة إلى تعظيم غير الله عز وجل والشرك به ، تعظيم القبور ، دعاء الله سبحانه وتعالى عند القبور ليس دعاء القبور وأصحاب القبور وإنما الدعاء عند القبور ، إنسان يعتقد أن بقعة هذا الرجل المدفون في هذا المكان بقعة صالحة مباركة فيأتي ويدعو الله عندها ، هذه وسيلة إلى الشرك ،لأن الناس يظنون بعد ذلك أن هذا الرجل هو سبب الإجابة ، فيكون وسيلة إلى الشرك ، الطواف بالقبور وسيلة إلى الشرك ، التبرك بها وسيلة إلى الشرك وذريعة إلى عبادتها ، فكل قول وفعل يفضي إلى الشرك يكون محرماً لأنه وسيلة إلى المحرّم ، والوسائل إلى المعاصي كالزنا وشرب الخمر والسرقة أيضاً محرمة ، النظر إلى المرأة الأجنبية وسيلة إلى الزنا ، الخلوة بها وسيلة إلى         الزنا ، خروج المرأة متعطرة وسيلة إلى الزنا ، كل هذا محرّم لأنه من الذرائع التي توصل إلى ما حرم الله تعالى ، فالوسيلة إلى المحرّم محرمة ،  والوسيلة إلى المكروه مكروهة 0

وهذه القاعدة من أنفع القواعد للناس ، الإنسان إذا احكم هذه القاعدة أمكن أن يعرف أحكام الحلال والحرام في ما يجري في حياته ، لأنه يزن الأمور ويراها بهذا الميزان ، فإن كانت توصل إلى الواجب فهي واجبة ، وإن كانت توصل إلى المستحب فهي مستحبة ، إن كانت توصل إلى المحرّم فهي محرمة ، وبحسب علم الإنسان واتساع فهمه يمكن له أن يطبق هذه القاعدة ولذلك فهي من أنفع القواعد وأكثرها فوائد ، ولهذا قال الشيخ السعدي رحمه الله : ولعلها يدخل فيها ربع الدين 0

واحكم بهذا الحكم للزوائد : الأشياء ثلاثة : مقاصد ووسائل وزوائد ، أما المقاصد فكالصلاة والحج والجهاد والصدقة ، الوسائل : الموصلة إليها ، الزوائد : مثل الرجوع من الصلاة الواجبة إلي البيت ، الرجوع والقفول من الحج والجهاد هذه متممات للعبادة التي قام بها تعطى أحكام الوسائل ، فالمتممات للأعمال تعطى أحكامها كالرجوع من الصلاة والحج والجهاد وما أشبه ذلك ، والرجوع من إتباع الجنازة ، أو الرجوع من عيادة المريض ، فإنه من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع هو في عبادة ، وهذا من كمال جود الله سبحانه وتعالى وكرمه ، والدليل على هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم(13) للرجل الذي قيل له إلا تشتري حماراً تركبه في الرمضاء وفي الظلماء وكان من أبعد الناس بيتاً عن المسجد قال : والله ما أحب أن يكون بيتي قرب المسجد وإن احتسب خطاي هذه ، فلما ذكروا ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام قال (( إن الله سبحانه وتعالى قد أعطاه ذلك كله )) وقرأ قول الله عز وجل { إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين }(14) آثارهم يعني في الأرض ، فهذا الأثر الذي أنت سلكته في الأرض إن كان في طاعة كُتب لك ، وإن كان في أمر مكروه كُتب عليك ، وإن كان في أمر محرّم كُتب عليك ، والأمر المكروه ينقص الأجر أحياناً ، وقد يكون وسيلة للوقوع في المحرم ، وليس هو بإثم على كل حال كما هو معلوم من تعريف المكروه ، والمعنى في المتممات أنه يؤجر كما يؤجر للعبادة ولا يعطى حكمها مثلاً في الوجوب مثل الرجوع من الصلاة 0

(25) والخـطأ والإكـراه والنسيـــان                 

        أسقطــه معبودنــا الرحمــان

(26) لكن مع الإتلاف يثبـت البــدلْ                 

           وينتفي التأثيــم عنـه والزلــل

  من رحمة الله سبحانه وتعالى وجوده وكرمه وتخفيفه على عباده ، أنه لا يؤاخذهم بالخطأ ولا بالإكراه ولا بالنسيان ، كما قال سبحانه وتعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا }(15) قال : نعم ، كما في رواية مسلم (16) ، أن الله سبحانه وتعالى استجاب للمؤمنين هذه الدعوة فقال : نعم ، وكذا في قوله عزوجل { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم }(17) فالخطأ ليس علينا فيه جناح ، والجناح هو الإثم ، وأما الذي يؤاخذ به الإنسان فهو العمد ، وأيضاً في قوله عزوجل { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم }(18) فبين عزوجل أن الذي يؤاخذ هو الذي يفعل الكفر اختياراً ، ويشرح صدره بأعمال الكفر ، وأما من وقع في الكفر بالإكراه ،  فهذا مرفوع عنه الإثم { إلا من اكره وقلبه مطمئن بالإيمان } فهذا مستثنى من غضب الله عزوجل ومن عذابه وعقابه ، فالخطأ والإكراه والنسيان أسقطه معبودنا الرحمان ، والله عزوجل كلف عباده كما تعلمون بأوامر ونواهٍ ، فإذا صدر منهم خلل بفعل المأمور أو بفعل المحظور ، فإن الله سبحانه وتعالى عفا عنهم وسامحهم فيه ، وجاء في الحديث (( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ))(19) وفي رواية (( عفي لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )) واللفظ الأول أقوى من جهة السند(20) ، وهنا مسألة وهي أن الذي لا يؤاخذ به الإنسان لا يعني أنه لا يطالب به على كل حال ، فكون الأمر إذا تركه الإنسان نسياناً أو خطأً مرفوعاً عنه الإثم ، لا يعني أنه لا يطالب به ، بل قسم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ذلك إلى قسمين : أوامر ونواهي ، مأمور ومحظور ، فالمأمور لا يسقط إذا تركه الإنسان نسياناً أو خطأً ، وأما المحظور فإنه يسقط إذا تركه نسياناً أو خطأً ، فمثلاً : إنسان نسي فصلى بغير وضوء ،  فهذا إذا تذكَّر وجب عليه أن يصلي ، لأنه ترك مأموراً ، يرفع عنه أثم الصلاة بغير وضوء ، لكنه مطالب بأن يصلي الصلاة مرة أخرى ، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : (( لا تقبل صلاة بغير طهور ))(21) ، أما من صلى وعلى ثوبه نجاسة فهذا يكون قد صلى وقد ارتكب محظوراً منهياً عنه { وثيابك   فطهر }(22) ففعل محظوراً أثناء الصلاة لكن جهلاً أو نسياناً ، فهذا صلاته صحيحة يدل عليه فعل النبي عليه الصلاة والسلام (( لمّا خلع نعليه في الصلاة وأخبر الصحابة أن جبريل أخبره أن في نعليه قذراً ))(23) ولو كانت الصلاة باطلة لأستأنفها النبي عليه الصلاة والسلام ، يعني لأستقبل صلاته من جديد 0

فإذاً الناسي والمخطئ قد رفع الإثم عنهما لأن الإثم مرتب على المقاصد والنيات ،  والناسي والمخطئ لا قصد لهما ولا نية ، أما رفع الأحكام كما قلنا فليس مراداً في هذه النصوص ، هذه النصوص تنفي الإثم ، لكن لا ترفع الأحكام ، ولهذا يحتاج الإنسان في إثباتها ونفيها إلى دليل آخر 0

أما المكره فهو نوعان : نوع لا اختيار له ولا قدرة على الامتناع ، مثل : إنسان حُمِلَ ثم أُلقي على رجل آخر فمات ، فهذا لا فعل له ولا اختيار ، فلو مات ذاك الرجل لا يؤمر بدية ولا بكفارة قتل الخطأ ، لأنه ليس له اختيار ، أو امرأة اغتصبت على الزنا ، شُدّتْ واغتصبت ، هذه لا اختيار لها ، أما النوع الثاني من الإكراه : فهو الذي يكون له اختيار ، لكنه يجبر على هذا الفعل مثل : إنسان يجبر على الزنا بامرأة ، أو رجل يجبر على أن يقتل رجلاً ، فقد قال العلماء : إنه لا يصح له إذا أكره على قتل معصوم أن يقتله ، لأنه لا يجوز له أن يحفظ نفسه بقتل غيره ، لأنه افتدى نفسه بغيره ، وهذا ذكر ابن رجب في قواعده أن عليه إجماع أهل العلم المعتد بأقوالهم ، أما الإكراه على الأقوال فهو معفو عنها ، كما في قصة عماّر أنه لما أكره على قول كلمة الكفر ، عفى الله عنه ، وعمن يقع في مثل حالته من المؤمنين إلي يوم الدين ، أما الإكراه على الأفعال ففيه التفصيل السابق 0

وأيضاً الإتلاف الذي يحصل بالخطأ والإكراه والنسيان يثبت به البدل ، لو أن إنساناً أتلف مال غيره خطأً أو نسياناً ، فهذا الإتلاف يرفع عنه الإثم فقط ، لكن لا يرفع عنه الضمان ، فإذا أتلف نفساً أو أتلف مالاً كزرع وغيره ، فإنه يضمن لأن الضمان مرتب على نفس الفعل سواء قصد أو لم يقصد ، بل لو أن من لا قصد له أتلف شيئاً وجب الضمان على وليه ، يعني لو أن طفلاً صغيراً أتلف سيارة ، أو أتلف زرعاً ، أو لو أن ماشية لأحد من الناس أتلفت زرعاً ، فعليه أن يضمن ما أتلفت ، وإن كانت هذه لا قصد لها ولا نية لها ، لأن الضمان مرتب على نفس الفعل سواء قصد أو لم يقصد ، وأما الإثم فهو الذي يرتب على المقاصد 0

ومن أراد الاستزادة فليقرأ في أعلام الموقعين لابن القيم رحمه الله 0

الهوامش:

(1) رواه مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما (8/170 ـ نووي) 0

(2) سورة النساء (24) 0

(3) رواه البخاري (9/525 – فتح ) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه 0

(4) رواه البخاري ( 12/209 ـ فتح ) ، ورواه مسلم (11/164 ـ نووي ) ، عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه 0

(5) رواه البخاري تعليقاً (5/75 ـ فتح ) ، ورواه النسائي عن عمرو بن الشريد عن أبيه وحسنه العلامة الألباني (صحيح سنن النسائي ـ3/970) ، ( إرواء الغليل 5/259) 0

(6) سورة الكهف (110) 0

(7) سورة البقرة (29) 0

(8) سورة الرحمن (10) 0

(9) رواه البخاري (13/278 ـ فتح ) ، ورواه مسلم (15/110 ـ نووي ) ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه 0

(10) رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها (12/16 ـ نووي ) 0

(11) سورة الشورى (21) 0

(12) رواه أبو داوود عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه ( صحيح أبو داوود ـ 1/317) 0

(13) رواه أبو داوود عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه (صحيح أبو داوود – 1/111) 0

(14) سورة يس (12) 0

(15) سورة البقرة (286) 0

(16) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه (2/144 ـ نووي ) 0

(17) سورة الأحزاب (5) 0

(18) سورة النحل (106) 0

(19) رواه بن ماجة عن أبي ذر رضي الله عنه ( صحيح بن ماجة ـ 1/347) 0

(20) إرواء الغليل (1/123) 0

(21) رواه مسلم عن بن عمر رضي الله عنهما (3/102 ـ نووي ) 0

(22) سورة المدثر (4) 0

(23) رواه أبو داوود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنها ( صحيح أبو داوود ـ1/128) 0

زر الذهاب إلى الأعلى