فقه

شرح القواعد الفقهية للسعدي (4

شرح القواعد الفقهية (4)

الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي

 (27) ومن مسائل الأحكام فـي التبــع                  

         يثبـت لا إذا استـقـل فـوقــــع

        يشير رحمه الله تعالى إلى قاعدة فقهية معروفة عند الفقهاء وهي : يَثْبتُ تبعاً ما لا يثبت استقلالاً ، فالأشياء أحكامها تختلف في الانفراد عن حال التبع         لغيرها ، هناك أشياء تختلف أحكامها إذا انفردت عن إذا كانت تبعاً لغيرها ، فإذا انفردت كان لها حكم ، وإذا كانت تبعاً لغيرها كان لها حكم آخر يخالف الحكم الأول ، فمن ذلك ما مثّل له الفقهاء بأنه لا يجوز بيع الغرر ( بيع المجهول ) ولكن هذا في المستقل أما في التبع فيجوز ، مثاله : أن الإنسان إذا اشترى بيتاً فإنه يشتريه دون الكشف عن أساس البيت ، لا يحفر حتى يرى أساس البيت ، فيشتري البيت في الظاهر ويبقى جزء من المجهول لا يراه ، ومع ذلك فالبيع صحيح ، لكن

شرح القواعد الفقهية (4)

 

الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي

شرح الشيخ / محمد الحمود النجدي

 (27) ومن مسائل الأحكام فـي التبــع                  

         يثبـت لا إذا استـقـل فـوقــــع

        يشير رحمه الله تعالى إلى قاعدة فقهية معروفة عند الفقهاء وهي : يَثْبتُ تبعاً ما لا يثبت استقلالاً ، فالأشياء أحكامها تختلف في الانفراد عن حال التبع         لغيرها ، هناك أشياء تختلف أحكامها إذا انفردت عن إذا كانت تبعاً لغيرها ، فإذا انفردت كان لها حكم ، وإذا كانت تبعاً لغيرها كان لها حكم آخر يخالف الحكم الأول ، فمن ذلك ما مثّل له الفقهاء بأنه لا يجوز بيع الغرر ( بيع المجهول ) ولكن هذا في المستقل أما في التبع فيجوز ، مثاله : أن الإنسان إذا اشترى بيتاً فإنه يشتريه دون الكشف عن أساس البيت ، لا يحفر حتى يرى أساس البيت ، فيشتري البيت في الظاهر ويبقى جزء من المجهول لا يراه ، ومع ذلك فالبيع صحيح ، لكن الغرر وحده محرّم ، لو كان غرراً وحده لكان محرماً ، ومن ذلك أيضاً قالوا : أكل الدود لا يجوز لأن هذه مستكرهة مستقذرة ، لكن لو أن إنساناً أكل تمراً فيه دود فهذا جائز ، لأنه كان تبعاً للتمر وليس استقلالاً ، لا يأكله الإنسان مباشرة ، بل يأكل بعض أنواع الأطعمة وفيها بعض الديدان القليلة التي تغتفر ، فهذا جائز ، ولو كانت وحدها لم تجز ، من ذلك أيضاً :  بيع الثمر قبل بدو صلاحه حكمه في الشرع أنه لا يجوز ، إلا في حال القطع في الحال ، إذا كان يشتريه بشرط القطع في الحال فإنه يجوز ، وأيضاً في حالة أخرى وهي : لو أنه اشترى الشجر وما عليها من الثمر قبل بدوّ الصلاح فإنه يجوز ، لأنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً ، لأن شراء الشجر هو الأصل ، فكان الثمر الذي على الشجر تبعاً وليس هو المقصود بالبيع ، فهذا هو معنى القاعدة هذه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً والتي قصدها الناظم هنا 0

 (28) والعُرْف معمول بـه إذا وَرَدْ             

      حكــم من الشـرع الشريـف لـم يُحَدّ

        هذا البيت عن العرف ، والذي يعبر عنه الفقهاء بقولهم العادة محكَّمة ، لكن الصحيح أن بينهما فرقاً ، وهو أن العادة أعم من العرف ، العرف يكون عاماً في البلد ،  لكن العادة قد تكون للشخص ، وقد تكون لهذا البيت ، وقد تكون لهذه الصنعة          أحياناً ، فالعادة أعم من جهة الأفراد ، فتكون خاصة عند بعض الأفراد ، والعرف يكون عاماً من جهة الشيوع والانتشار 0

العرف معمول به في الشريعة إذا لم يرد في الشرع تحديد لحكم ما ، أو تفسير لحكم ما ، بكلام الله تعالى ورسوله ، مما مثل له الفقهاء  واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(24) : السفر ، السفر جاء في الشرع ولم يحد بمسافة مقطوعة ، ما قال صلى الله عليه وسلم : من قطع مسافة كذا وكذا قصر الصلاة ، ولا قال من سافر يوماً وليلة قصر الصلاة ، ولهذا اختار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره أن السفر من الأشياء التي تحد بالعرف فما كان في عرف الناس سفراً فهو سفر ، وما كان في عرفهم ليس بسفر فهو ليس بسفر 0

ومن ذلك أيضاً : الحِرْز ، الحرز شرط من شروط القطع ، يعني لا تقطع اليد إلا إذا كان المسروق من حرز ، أما من ترك ماله للناس وأخذوه ، فليس فيه قطع ، وليس فيه حد السرقة ، لكن الحرز يكون حسب عرف الناس فما تعارف عليه الناس أنه حرز فهو حرز ، وما كان في عرفهم ليس حرزاً فهو ليس بحرز ، من ذلك أيضاً : قول الله تعالى { وعاشروهن بالمعروف }(25) المعروف الذي قيّدت به الآية لم يذكر تحديده في الآية ، ما قال الله عزوجل أنفقوا عليهن كذا وكذا دينار ، وألبسوهن كذا وكذا ثوب في كل سنة ، وأطعموهن كذا وكذا من الطعام ، وإنما المعاشرة بالمعروف تكون في كل بلد وفي كل زمن بحسبه ، فعندنا هنا مثلاً البيت الذي لا يوجد فيه مكيّف هذا بيت لا يمكن السكنى فيه ، وأن الزوج إذا لم يوفر لزوجته مكيّف في البيت ، يكون عاشرها بغير المعروف ، لكن في بلاد أخرى تعارفوا أن هذا الأمر ربما يكون من كماليات الكماليات ، فإذاً تختلف الأعراف والعادات بحسب البلدان وبحسب الأزمنة ، أيضاً ما تعارف عليه الناس ذوي الطبقة المتوسطة غير الذي يتعارف عليه الأغنياء ، فالأغنياء مثلاً عندهم أعراف بالنسبة للزواج بالنسبة للبيوت غير عرف من هو متوسط الحال ،  من ذلك أيضاً برّ الوالدين وصلة الرحم لم يحد في الشرع { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى }(26) الإحسان هذا ما هو محدد في الشريعة ،  فيرجع فيه إلى العرف ، فكل ما كان براً وكان إحساناً إلى الوالدين فهو مأمور به ، وكل ما كان بضد ذلك فهو منهيٌ عنه ، وكذلك صلة الرحم كثيراً ما نسأل كم اصل رحمي في الأسبوع ؟ في الشهر ؟ في السنة ؟ نقول المرجع في ذلك إلى العرف وإلى العادة ، ما اعتدت عليه واعتاد عليه أهل بلدك فاتبعه في هذا الباب ، لأنه لم يأت محدداً في الشرع ، فكل ما لم يحد بالشرع فإنه يرجع فيه إلى عرف الناس 0

أيضاً  ذلك في المعاملات : لو أن إنساناً استأجر حمالاً يحمل له الأغراض من السوق إلى السيارة فإنه يعطيه الأجرة المتعارف عليها ، ولو طالب بالزيادة لم يكن له ذلك ، إلا أن يشرط قبل أن يحمل ، وإلا فإنه يعطى ما جرت به العادة ، أيضاً من         ذلك : تصرف الإنسان في ملك غيره مثلوا له بطرق الباب واستعمال جرس الباب هذا من ملك الغير ، لكن جرت العادة بالسماح باستعماله وما أشبه ذلك من الأمور ، وهي كثيرة جداً ، فما جرى به العرف وعمل به الناس ما لم يخالف الشرع فهو محكّمٌ وهذا معنى قول الفقهاء العادة محكمة يعني معمول بها ، فإذا نص الشارع على حكم وعلق به شيئاً فإن نص على حده وتفسيره رجعنا إليه ، فهناك أمور محدودة كالزكاة مثلاً وأنصبتها هذا كله محدود في الشرع ، وأما الذي لم يحد في النص ، فإنه يرجع فيه إلى العرف الجاري 0

 (29) معاجـل المحظــور قبــل آنــه    

              قـد باء بالخســران مـع حرمانـه

      معاجل المحظور قبل آنه ، يعني : قبل أوانه ، من استعجل الأمر المحظور قبل أوانه فقد باء بالخسران ، لأنه وقع في الإثم والمعصية والذنب ، مع حرمانه من ذلك إما شرعاً وإما قدراً ، وهذا يعبر عنه الفقهاء بقولهم من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه وهذا عام في أحكام الدنيا والآخرة ، يعني يدخل في ذلك أحكام الدنيا الشرعية ، وكذلك أحكام الآخرة والعقوبات الأخروية ، فمن ذلك من الأحكام الدنيوية : أن الوارث لو قتل مُوَرَّثه منع من الميراث عقوبة له لاستعجاله الميراث قبل أوانه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم في هذا (( ليس لقاتل ميراث ))(27) يعني من ثبت أنه قتل مورّثه ولو عن طريق الخطأ فإنه يحرم من الميراث ، فإن قال قائل :  إذا كان هذا واضحاً في العمد فكيف يجري في الخطأ ؟ فالجواب : لئلا يتخذ ذريعة إلي القتل ، فيدبّر الإنسان صورة القتل كأنها صورة خطأ ، وهي في الحقيقة عمد ، ولهذا جاءت الشريعة بسدّ هذا الباب سداً للذريعة ، لئلا يُتخذ القتل الخطأ ذريعة إلى الحرام ، فليس لقاتل ميراث مطلقاً ، من ثبت أنه قتل مورّثه ولو عن طريق الخطأ فإنه يحرم من أن يرث من ميراثه شيئاً 0

من الأحكام أيضاً في الشريعة : ما جاء أن المُدَبَّر إذا قتل سيده مُنِعَ العتق ، والتدبير هو أن يقول الرجل لعبده : إذا مت فأنت حرّ ، فمن أجل أن يستعجل الحرية يقتل العبدُ سيده ، فإذا ثبت أن العبد قتل سيده ولو عن طريق الخطأ فإنه يمنع من العتق ، من ذلك أيضاً ما أجراه الصحابة على المطلّق في مرض الموت ، من طلّق امرأته في مرض موته ليحرمها من الميراث وُرثّتْ وخولف في قصده ، إذا كان قصده أن يمنع امرأته من الميراث فيطلقها في مرض موته ، فراراً من الميراث ، فإنها ترث ولو خرجت من العدة ، أما في الأحكام الأخروية فمنها : قول النبي عليه الصلاة والسلام (( لا تشربوا في آنية الذهب والفضة فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ))(28) وفي الحديث الآخر    (( من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ))(29) وفي الحديث أيضاً (( من شرب الخمر حُرمها في الآخرة ))(30) فهذه كلها من الأحكام الأخروية أن من شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة ما لم يتب ، فهذا لكونه استعجل أشياء محرمة عاقبه الله تعالى بحرمانها إما في الدنيا وإما في الآخرة ، وكما أن المتعجل للشيء قبل أوانه يعاقب بحرمانه ، فإنه يقابل من ترك شيئاً لله تعالى ، اتقاء الله تعالى ، فإن الله سبحانه تعالى يعوضه عنه خيراً .

وهذه القاعدة مأخوذة من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد في مسنده وابن أبي الدنيا في كتابه الورع أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (( إنك لن تدع شيئاً اتقاء الله عزوجل إلا آتاك الله خيراً منه ))(31) أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، فمن ترك شيئاً لله سبحانه وتعالى عوضه الله خيراً منها ، من ترك معصية تشتهيها نفسه وترغب فيها ، فإن الله تعالى يعوضه خيراً منها : إيماناً في قلبه ، أو عملاً صالحاً ، أو علماً نافعاً ، أو رزقا واسعاً ، أو قوة في البدن  ، أو رفعة عند الخلق ، فإنك لن تترك شيئاً اتقاء الله تعالى إلا آتاك الله خيراً منه ، ومثال على ذلك نقول : تفكروا في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام كيف أنه ترك المعصية اتقاء الله تعالى ، لم يتق في ذلك أي مخلوق لأنها غلّقت الأبواب ولا أحد عنده ، لكن تركها اتقاء الله عزوجل ، وانظروا كيف عوضه الله عزوجل من ذلك ، الملك الواسع والسلطان والقوة ، والسعه في الرزق ، والرفعه على الخلق ، ولو أنه وحاشاه عصى الله عزوجل هل كان له ذلك ؟ أبداً ، فمن ترك شيئاً لله سبحانه وتعالى عوضه الله تعالى خيراً منه في الدنيا والآخرة ، والله سبحانه وتعالى المستعان على تحصيل هذه الخصلة 0

(30) وإن أتى التحريم في نفس العملْ             

        أو شرطـه ، فذو فسـاد وخلــــلْ

معنى هذا البيت أن التحريم إذا عاد إلى نفس العمل أو شرطه فإن العمل يحكم بفساده ، فالعمل لا بد أن يكون خالياً من الموانع ليقع صحيحاً ، ولا بد أن تكتمل شروطه أيضاً ، فإن وُجد مانع يمنع من صحة العمل فسدت العبادة ، وإذا نقص شرط من شروط صحة العبادة فسدت العبادة ، مثاله : الصلاة ، الصلاة لها موانع ولها شروط ، من موانع الصلاة الحيض ، فلو حاضت المرأة وصلّت فإن صلاتها فاسدة ، لأن هناك مانعاً منع من صحة الصلاة ، وللصلاة شروط منها : دخول الوقت ، فلو صلى الإنسان قبل دخول الوقت كانت صلاته باطلة ، ومن شروط الصلاة : التطهّر فلو صلى الإنسان بغير وضوء فإن صلاته باطلة ، ومن شروطها : الطهارة في البدن وفي الثوب وفي المكان ، فلو صلى الإنسان بنجاسة على بدنه أو ثوبه أو مكانه متعمداً بطلت صلاته ، لو صلى وهو مستدبر القبلة فإن صلاته باطلة ، لو صلى بغير نية صلاته باطلة ، فإذا أخلّ بركن من أركان الصلاة أو شرط من شروطها فإن هذه الصلاة باطلة ، لأن التحريم عاد إلى نفس العمل أو شرطه ، كذلك لو صام الإنسان في يوم العيد فإن صيام يوم العيد باطل وفاسد ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهي عن صيام العيدين(32) ، والنهي والتحريم عاد إلى نفس العبادة 0

أمّا إذا كان النهي والتحريم لا يعود إلى نفس العبادة ولا إلى شرطها ، مثل : أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن لبس خاتم الذهب للرجال ، وكذا نهى عن لبس الحرير ، فلو صلّى رجل وهو يلبس خاتم الذهب فإن النهي والتحريم لا يعود إلى نفس العبادة ،  وإنما إلى شيء خارج عنها ، ولذلك فإن صلاته صحيحة مع إثمه بلبس الذهب ، لو صلى وعليه عمامة من الحرير فإن صلاته صحيحة ، لأن التحريم عاد إلى شيء خارج العبادة ، والراجح من أقوال العلماء هو هذا ، وإن كان قد خالف في ذلك الظاهرية ، لأن الظاهرية يقولون ومنهم الإمام ابن حزم رحمه الله : أن الإنسان لو صلّى وهو يلبس الذهب فإن صلاته باطلة ، لأنه لا يجتمع في الرجل أن يعبد الله مع المعصية في حال الصلاة ، قال : ما دام أنه في حال الصلاة يعصي الله عزوجل فصلاته باطلة ، الإمام أحمد رحمه الله قال أيضاً شيئاً من ذلك ، قال : من صلى في أرض مغصوبة فصلاته باطلة ، لأنه في حال صلاته متلبّس بمعصية ، ولذلك فلا تصح صلاته(33) ، وكذا قال ابن حزم : من صلى وهو مسبل إزاره فإن صلاته باطلة(34) ، لكن الراجح هو ما ذكرناه : أن الصلاة صحيحة مع حرمة هذه الأفعال 0

 (31) ومتلفُ مـؤذيـهِ ليـس يَضمـنُ                     

                  بعـد الدفاع بالتي هيَ أحســـنُ

        ( متلف مؤذيه ليس يضمن ) يعني إذا صال على الإنسان شيء مؤذي ، صال بمعنى هجم ، إذا هجم على الإنسان شيء يؤذيه كثورٍ هائج أو بقرة هائجة ، أو جمل في حال هيجان وما أشبه ذلك ، أو طير صال عليه وهجم عليه ، فإن عليه أن يدفع بالتي هي أحسن ، يعني يدفعه بالأقل ، يحاول أن يدفعه بيده ، فإذا كان مما لا يندفع باليد يدفعه بعصا ، فإذا كان مما لا يندفع بالعصا ، يَكسر رجله مثلاً لأجل أن يتعطّل ، فإذا كان لا يندفع إلا بقتله فإنه يقتل ولا ضمان عليه ، لأنه من باب دفع الصائل عن النفس ولا حرج على الإنسان أن يدفع عن نفسه إذا أراد أحدٌ أن يؤذيه ، لكن عليه أن يدفع بالأقل ، لو أن إنساناً دفع شيئاً مما يندفع بالضرب ، دفعه بالقتل ولا حاجة له إلى ذلك فإنه يضمن ، يعني يغرم ثمنه ، إذا كان الإنسان يستطيع أن يدفع صولته بأن يحبسه في القفص ، أو يحبسه في الحظيرة ، فلا حاجة له إلى أن يقتله ، ولا أن يفسده أو يتلفه ، لكن إذا كان هذا المؤذي لا يندفع إلا بالقتل فإنه يقتل وليس عليه ضمان 0

 وكذا قالوا لو صال على الإنسان طير في الإحرام ، وهو في حال الإحرام ممنوع من قتل الصيد فلو صال عليه شيء فقتله فإنه لا ضمان عليه ، أما إذا اضطر إلى أكل الصيد وهو محرم فهذه مسألة أخرى ، ليست من باب دفع الصائل ، إنسان اضطر إلى أكل الصيد ، نفذ ما معه من زاد واحتاج إلى أن يأكل فصاد أرنباً أو غزالاً وذبحه وأكله للضرورة ، فإن هذا لا أثم عليه ، لأن الله تعالى قال { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا أثم عليه }(35) لكن هل عليه الضمان ؟ نعم عليه الضمان ، لكن لا أثم عليه ، والضمان يكون في مقابل جبر ما حصل من قتل أو اعتداء على الصيد في حال الإحرام 0

 (32) وأل تفيــد الكـل فـي العمـــوم                      

          فـي الجمــع والإفـــراد كالعليـــم

        ( أل ) التعريف إذا دخلت على لفظ مفرد أو لفظ جمع أفادت العموم والاستغراق لجميع المعنى ، فمثال ذلك قول الله تعالى { الحمد لله رب العالمين }(36) الألف واللام هنا تفيد الاستغراق والعموم ، جميع أنواع المحامد ثابتة له سبحانه وتعالى ، وهو عزوجل الذي له الحمد كله ، ولا يلحقه ذم ولا نقص ، فهو جل وعلا المستحق لجميع أنواع المحامد ، ومثله قول الله عزوجل { والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا }(37) فالإنسان هنا مفرد ودخول (أل) عليه هنا تفيد العموم ، فكل أنواع الإنسان في خسر ، إلا طائفة واحدة ، وهي التي استثناها الله عزوجل بقوله { إلا الذين آمنوا } بقلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم { وتواصوا بالحق } تواصوا بالعلم النافع والعمل الصالح { وتواصوا بالصبر } على ذلك ، فكل الناس في خسر إلا هذه الطائفة الرابحة ومن فاته شيء من هذه الخصال ، فاته شيء من الربح ، وأصابه شيء من الخسار في هذه الأمور الأربعة ، وكذلك قول الله عزوجل { إن الإنسان خلق هلوعاً * إذا مسه الشر جزوعاً * وإذا مسه الخير منوعاً * إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دائمون }(38) فكل واحد من الناس هذه صفته ، مثل قول الله عزوجل    { إن الإنسان لظلوم كفار }(39) { إن الإنسان لربه لكنود }(40) كل الناس هذه صفتهم إلا من أخرجته عن هذه الصفات المذمومة ، صفات الخير من الإيمان والعمل الصالح كالصلاة والزكاة وغيرهما 0

ومثال دخول (أل) على المفرد دخولها على أسماء الله الحسنى فإنها تفيد الاستغراق (كالعليم ـ الحكيم ـ الملك ـ القدوس ـ السلام ـ المؤمن ـ المهيمن وغيرها ) فهنا مثّل الناظم باسمه تعالى ( العليم ) فالعليم الذي له العلم الشامل التام بكل شيء ، ( الحكيم ) الذي له الحكمة التامة فهو يضع الأمور في مواضعها ، وأيضاً الذي احكم صنع كل شيء ، فالأحكام في الصنعة موجود في اعظم الأشياء وفي أدق الأشياء ، فالبعوضة محكمة ، كما أن خلق السماء محكم ، ( الرحمن الرحيم ) الذي له الرحمة العامة التي وسعت الخلائق ، ولذلك استوى على أوسع مخلوقاته بأوسع أسمائه فقال { الرحمن على العرش استوى }(41) ، ( الغني ) الذي له الغنى التام المطلق من جميع الوجوه وهكذا ، فأسماء الله تعالى إذا دخلت عليها ( أل ) فإنها تفيد التعظيم والشمول والاستغراق 0

وأما في الجمع فأيضاً ( أل ) دخولها يدل على العموم ، كقوله تعالى { إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات …} إلى قوله { أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً } (42) وكذا قول الله تعالى { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله }(43) هنا الفقراء تشمل جميع الخلق ، فجميع الخلق من الفقراء ، ومثلها أيضاً قول الله تعالى { يا أيها الناس اتقوا ربكم }(44) فالتقوى مطلوبة من الجميع ، مهما بلغ الإنسان في رتبة العلم النافع والعمل الصالح ، فإنه مطلوب منه أن يتقي الله ، ما يقول في يوم من الأيام : أنا قد سقطت عني هذه المطالبة بعلمي الواسع وعملي الصالح  ، نقول : لا ، لأن الله تعالى قال { يا أيها الناس اتقوا ربكم } فعم ولم يخص ، وأيضاً من أمثلة ذلك : قول الرسول صلى الله عليه وسلم (( إنما الأعمال  بالنيات )) يشمل كل عمل بدني ومالي ، فالأعمال العبادية البدنية كالصلاة ، والأعمال العبادية المالية كالزكاة ، والأعمال البدنية المالية العبادية كالحج والجهاد ، فهذا اللفظ (( إنما الأعمال بالنيات )) يشمل الجميع0

 (33) والنكرات في سيـاق النفـي              

  تعطي العموم ، أو سيــاق النهـي

إذا جاءت النكرة بعد النفي ، أو جاءت بعد النهي فإنها تفيد العموم والشمول أيضاً ، هذه كلها من القواعد الأصولية التي تدخل في أصول الفقه ، فمثال النكرة في سياق النفي قولنا : ( لا إله إلا الله ) ، ( لا إله ) يفيد العموم لأنه نكرة في سياق النفي ( إله ) نكرة دخل عليها النفي فأفادت العموم ، فلا إله في الأرض ولا في السماء إلا الله سبحانه وتعالى ، فنفت الإلهية عن غير الله تبارك وتعالى ، وكذلك قولنا : ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) نكرات في سياق النفي أفادت العموم ، في جميع الأحوال لا حول ولا قوة إلا بالله ، وكذا قول الله تعالى { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا }(45)  ( بشيء ) نكرة في سياق النفي تفيد العموم ، ومثال النكرة في سياق النهي { فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين }(46) ( إلها ) نكرة في سياق النهي تفيد العموم ، { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً }(47) ، { ولا تقولن لشيء } أي شيء صغير أو كبير لا تقولن له إني فاعله غداً { إلا أن يشاء الله } ، فإذاً النكرة إن كانت في سياق النفي أو في سياق النهي فإنها تفيد العموم 0

  (34) كذاك (( مَنْ )) و (( مَا )) تفيدان مَعَا             

            كُلَّ العمـوم يا أُخَــيّ فاسْمَعَـــا

        أي أن حرفي (من) و (ما) تفيدان العموم (48) ، بعد أن ذكر أن (أل) تفيد العموم ،  وأن النكرة في سياق النفي والنهي كل منهما يفيد العموم ، قال هنا وأن (من وما) تفيدان العموم ، يعني أنهما يستغرقان كل ما يدخل فيهما ، كما قال سبحانه وتعالى     { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة }(49) هذه تفيد    العموم ، كل ذكر وأنثى إذا عمل صالحاً وهو مؤمن فإن الله وعده بالحياة الطيبة ، وقوله عزوجل { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه }(50) هذه أيضاً تفيد العموم وهي وعيد للمشركين ، وأيضاً كقوله سبحانه وتعالى { ومن أصدق من الله حديثاً }(51) { ومن أصدق من الله قيلاً }(52) يفيد العموم أن الله سبحانه وتعالى أصدق القائلين ولا أصدق من الله عزوجل ، وقال عزوجل { ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن }(53) فهذا أيضاً يفيد العموم ، ومن الأحاديث شيءٌ كثير مما ذكره النبي عليه الصلاة والسلام ، من قال كذا فله كذا وكذا ، من صلى كذا فله كذا وكذا ، هذا يفيد العموم لأن حرف (من) من ألفاظ العموم 0

        أما مثال (ما) فكقوله عزوجل { ولله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه }(54) هذا كله يفيد العموم ، وكقوله عزوجل { وما تحمل من أنثى و لا تضع إلا بعلمه }(55) يشمل جميع الإناث على العموم من الإنسان وغيره ، وقوله عزوجل { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }(56) يفيد عموم ما تكلّم به النبي عليه الصلاة والسلام من أمر أو نهي ، وقوله عزوجل { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فأعبدون }(57) أي أن كل الأنبياء والمرسلين دعوا الناس إلى توحيد الله عزوجل ، ويبقى هذا العموم على عمومه حتى يأتي التخصيص ، والتخصيص لا بد له من دليل وقرينة 0

——————————————————————————–

(24) تيسير الفقه الجامع للإختيارات الفقهية (1/333) 0

(25) سورة النساء (19) 0

(26) سورة النساء (36) 0

(27) رواه بن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ( صحيح بن ماجه ـ2/98) 0

(28) رواه البخاري (9/465 ـ فتح ) ، ورواه مسلم (14/35 ـ نووي ) عن حذيفة رضي الله عنه 0

(29) رواه البخاري (10/296 ـ فتح ) ، ورواه مسلم (14/35 ـ نووي ) عن حذيفة رضي الله عنه 0

(30) رواه البخاري (10/33 ـ فتح ) ، ورواه مسلم (13/172 ـ نووي ) عن بن عمر رضي الله عنهما 0

(31) رواه أحمد وغيره انظر : كتاب الورع (41 – بتحقيقنا ) ، وصححه العلامة الألباني (السلسلة الضعيفة ـ1/61) 0

(32) رواه مسلم عن عمر رضي الله عنه (8/15 ـ نووي ) 0

(33) حاشية الروض المربع لابن قاسم (1/503) 0

(34) المحلى (3/266) 0

(35) سورة البقرة (173) 0

(36) سورة الفاتحة (1) 0

(37) سورة العصر (1ـ3) 0

(38) سورة المعارج (19ـ23) 0

(39) سورة إبراهيم (34) 0

(40) سورة العاديات (6) 0

(41) سورة طه (5) 0

(42) سورة الأحزاب (35) 0

(43) سورة فاطر (15) 0

(44) سورة الحج (1) 0

(45) سورة البقرة (255) 0

(46) سورة الشعراء (213) 0

(47) سورة الكهف (23) 0

(48) وتشمل ( من ) و ( ما ) الاستفهامية والشرطية والموصولة وكذا سائر الأسماء الموصولة كالذي والتي وفروعهما 0

(49) سورة النحل (97) 0

(50) سورة المؤمنون (117) 0

(51) سورة النساء (87) 0

(52) سورة النساء (122) 0

(53) سورة النساء (125) 0

(54) سورة البقرة (284) 0

(55) سورة فصلت (47) 0

(56) سورة الحشر (7) 0

(57) سورة الأنبياء (25) 0

 

زر الذهاب إلى الأعلى