فقه

شرح القواعد الفقهية (5)

شرح القواعد الفقهية (5)

 للشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي

شرح / محمد الحمود النجدي
 

35) ومثلـه المفـرد إذ يضـاف              

     فافهم هديـت الرشــد ما يضـاف

 وهذا البيت الأخير في باب العام هنا ، المفرد المضاف يفيد العموم ويستغرق جميع المعنى ، والعام هو اللفظ الشامل المستغرق لجميع أفراده بلا حصر ، لأن العام أصلاً في اللغة معناه الشمول ، فالمفرد المضاف أيضاً يفيد العموم ، منه قوله عزوجل { وأما بنعمة ربك فحدث }(1) المفرد المضاف هو { نعمة ربك } يعني النعمة مضافة إلى الله سبحانه وتعالى ، { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }(2) فالمفرد المضاف هو { نعمة الله } ، منها أيضاً قوله عزوجل { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم }(3) المفرد المضاف هو { عبادي } مضاف بياء الإضافة فيدخل فيه جميع العباد وهذا كثير في القرآن { قل  لعبادي الذين آمنوا أقيموا الصلاة }(4) ، { سبحان الذي أسرى بعبده }(5) { تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده }(6) ويعطي معنى أن النبي عليه الصلاة والسلام قام بجميع وظائف العبودية ، لأن هذا مفرد مضاف ، وبهذا ينتهي الكلام على العموم والألفاظ الدالة عليه ، قلنا أن الألفاظ التي تدل على العموم هي : (أل) التعريف ، والنكرة في سياق النفي أو النهي ، و(من) و(ما) والمفرد المضاف ، هذه الأمور التي ذكرها هناً ، وهناك أشياء غير التي ذكرها المصنّف لكن هنا الكلام على جهة الاختصار ، وهناك ألفاظ أخرى تدل على العموم مثل : كل وجميع  0

(36) ولا يتم الحكم حتى تجتمع                      

       كــل الشروط والموانــع ترتفـع

 هذا البيت يدل على قاعدة عظيمة من قواعد الشرع ، ألا وهي أن الأمر لا يتم ولا يكتمل إلا بأن تتحقق فيه الشروط وتنتفي الموانع عنه(7) ، ونضرب على ذلك أمثلة : وأعظم تلك الأمثلة التوحيد : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، التوحيد لا يتم إلا بتحقق شروط وانتفاء موانع ، أما تحقق الشروط فأن يقرّ ويذعن بالإيمان ظاهراً وباطناً بالقلب واللسان والجوارح ، أما بالقلب فبالتصديق والإقرار والانقياد والمحبة والخوف والرجاء والتوكل ، وهذه كلها متممات لا يتم التوحيد إلا بها ، وأما باللسان فبالإقرار أيضاً وبقراءة القرآن وترديد الأذكار وما أشبه ذلك ، هذا كله من متممات التوحيد ، وأما بالجوارح فبالانقياد للتصديق الذي في القلب فإنه لا بد أن يظهر ذلك على الجوارح ، يعني من قال : إنه مصدق بوجود الشيء ، لا بد أن يظهر ذلك على لسانه وجوارحه ، وإلا لم يكن مصدقاً في الباطن ، يعني يستحيل أن يصدّق إنسان بقدوم جيش يجتاح الناس ، ويبقى في مكانه دون حراك ولا استعداد ولا هرب ، فهذا ليس بمصدق وإن قال أنا مصدق ، إذاً لا بد أن توجد فيه هذه الشروط ، أما موانع تحقق فضل التوحيد فهي أمور ثلاثة :

 الأول : الشرك ، الثاني : البدعة ، الثالث : المعصية ، فإن الشرك يمنع تحقق كمال التوحيد { لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين }(8) والشرك كما تعلمون شرك أكبر يناقض التوحيد من أصله ، يعني يمنع وجود الأمر وتمامه من أصله ، وأما الشرك الأصغر فإنه يخدش في التوحيد ولا يناقضه من أصله ، ولا يرفعه من أصله كالرياء والحلف بغير الله وقول العبد : ما شاء الله وشئت وما أشبه ذلك ، هذا كله من الشرك الأصغر الذي لا يناقض التوحيد من أصله ،

 وأما البدعة فإنها أيضاً تضاد التوحيد وتضاد كمال الإتباع للرسول صلى الله عليه وسلم ، وأما المعصية فكذلك تنافي كمال التوحيد ، فإذاً لا يتم التوحيد إلا بتحقق الشروط وانتفاء الموانع ، وعلى هذا يحمل كل وعد في الكتاب للمسلمين وللموحدين والمؤمنين ، أنه لا يحصل للعبد حتى تتم الشروط تتحقق وتنتفي الموانع ، وإلا كان الأمر إما منقوضاً من أصله أو ناقصاً غير   تام 0

وعلى هذا أيضاً أموراً كثيرة ، من ذلك الصلاة : الصلاة لا بد لها من  شروط ، لا بد لها من ستر العورة واستقبال القبلة والوضوء وما أشبه ذلك من الشروط ودخول الوقت ، ولا بد من انتفاء موانع : كنواقض الوضوء وكالحيض والنفاس وماأشبه ذلك ، فلا تتم الصلاة إلا إذا تحققت شروطها وانتفت موانعها ، ولا يقال فلان صلى إلا إذا صلى الصلاة التي تتم بها الشروط وتتحقق وتنتفي عنها الموانع ، ولذلك لا نحكم على الشيء بأنه موجود وتام إلا بهذين الأمرين ، والإسلام كله لا تتحقق أعماله إلا بالتوحيد والإتباع  ، كما قال الفضيل بن عياض(9) { ليبلوكم أيكم أحسن عملا }(10) قال : أخلصه وأصوبه فإن العمل إن كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل وإن كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون صواباً خالصاً ، فإذاً لا بد من هذين ليتم العمل ، فهذا البيت في الحقيقة دالٌ على هذه القاعدة العظيمة ولها أمثلة كثيرة ، وقد ضرب الناظم رحمه الله تعالى أمثلة كثيرة في الشرح 0

(37) ومن أتـى بما عليــه مـن عمـل          

    قـد استحـــق مالـه عـلى العمــــل

  هذا البيت في الأعمال التي يضمن فيها الإنسان ، والأعمال التي لا يضمن  وتكون هدراً ، فما نشأ عن الأمر المأذون فيه فليس فيه ضمان ، وما نشأ عن العمل الذي لا إذْنَ فيه فإنه مضمون ، مثال ذلك ومعناه : أننا لوقطعنا يد سارق ، فسرى القطع حتى فسدت اليد ، ثم قطعت من المرفق بسبب الفساد الذي أصاب اليد ، فإننا لا نضمن ، لأن قطع يد السارق مأذونٌ فيه من الشارع ، لكن لو أن إنساناً جرح إنساناً في رجله أو في يده فسرى هذا الجرح حتى فسدت اليد وقطعت فهو في هذه الحالة يضمن ، ولهذا من تعدى على إنسان بجرح لا يُقاد له حتى يَبرأ ، حدث أن رجلاً جرح رجلاً في ركبته فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، وقال له : اقدني من فلان ، قال : حتى تبرأ ، ثم جاءه الثانية وقال : اقدني من فلان ، قال : حتى تبرأ ، فلمّا أصرّ عليه أقاده ، يعني جرحه مثل ما جرحه ، ثم إن ذلك الرجل سرت الجراحة فيه فتعطّلت ركبته أو رجله فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فردّه وأبطل ما حدث من سراية في جرحه ، لأنه استعجل وأبى أن يسمع ما أوصاه به النبي صلى الله عليه وسلم(11) 0

 من ذلك أيضاً لو أن إنساناً حفر بئراً في مكان مأذون فيه ، فجاء إنسان وسقط فيه فلا ضمان عليه ، ولو أن إنساناً كانت له بهائم في حظيرة مغلقة ، فجاء إنسان ودخل على الحظيرة فجاء ثور ونطحه وكسره أو أصابه بجراحة ، فهذا لا يضمن ، لكن لو أنه أطلق دابة خطرة في الطريق ، فأصابت بعض المسلمين يكون ضامناً ، كذلك لو وضع حجراً في طريق المسلمين وتأذى به بعض المسلمين فإنه يكون ضامناً ، فالفعل المأذون فيه لا ضمان  فيه ، أما الفعل الذي لا يكون مأذوناً فيه فإنه يضمن 0

من ذلك أيضاً قالوا : لو أن إنساناً أراد أن يجوز بين يدي إنسان يصلي فدفعه فسقط وانكسر ، قالوا : لا ضمان عليه لأنه متعدٍ وهذا الفعل مأذون فيه 0

أيضاً مما يشبه هذه القاعدة ما بيّنه الشارح أن الآثار الناشئة عن الطاعة من الأعمال المأذون فيها المستحبة ، يثاب عليها الإنسان ، كالتعب والنصب الذي يصيب الإنسان بفعل الطاعات ، فإن هذا يثاب عليه الإنسان ، ومن ذلك الرائحة الكريهة التي تحدث بفعل الصيام ، فإن هذه يثاب عليها الإنسان ، وأن الآثار الناشئة عن المعصية من العقوبات أو الأمراض أو البلاء والتعب فهذا تبعٌ للمعصية 0

(38) وكل حكـم دائـــر مع علتـه                 

     وهــي التــي قد أوجبت لشرعيته

  هذه قاعدة عظيمة وهي أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ، فإذا وجدت العلة وجد الحكم ، وإذا انتفت العلة انتفى الحكم ، لأن العلة هي التي من أجلها شُرِع   الحكم ، فمثلاً : الإسكار هي علة تحريم الخمر ، فإذا وجدت هذه العلة في أي شراب ،  أعطيناه حكم الخمر وهو التحريم ، لذلك قال صلى الله عليه وسلم (( كل مسكر     خمر ))(12) إذا انتفت هذه العلة بأن تحوّل الخمر إلى خل ، انتفى الحكم ، وهو      التحريم ، وصار يجوز للإنسان أن ينتفع بالخل ، لأن الخل حلال لا إسكار فيه ،

ومن ذلك الحيض : فهو علة منع المرأة من الصلاة والطواف ، فإذا وجدت هذه العلة وجد الحكم ، وإذا ارتفع هذا الحيض ارتفعت أحكامه . المشقة قالوا هي علة لكثير من التخفيفات كالفطر في السفر ، وكصلاة المريض قاعداً أو على جنبه ، أو بعض التخفيفات كالتيمم ونحو ذلك ، فإذا وجدت المشقة حصلت التخفيفات ، وإذا لم توجد عدمت هذه الأحكام ، من ذلك التكليف ، وهو مكوّن من العقل والبلوغ هذه علة التكليف ، يعني التكليف لا يكون إلا بالعقل والبلوغ فإذا وجد التكليف لزمت الفرائض والتكاليف الشرعية ، وإذا لم يوجد التكليف بأن كان الإنسان عاقلاً غير بالغ ، فإنه لا تلزمه التكاليف الشرعية ، أو أن يكون بالغاً غير عاقل ، فإنه لا تلزمه التكاليف الشرعية ، لأن العلة منتفية لم توجد ، كذلك الإسلام إذا لم يكن الإنسان مسلماً فإن الأعمال الصالحة لا تقبل منه ، إذا انتفت هذه العلة ، انتفت صحة الأعمال ، فشروط الأحكام داخلة في هذا الباب ، فجميع العبادات لا تصح إلا بالتمييز والعقل والإسلام 0

 (39) وكـل شـرط لازم للعاقـــد                   

    فــي البيــع والنكــاح والمقاصــد

(40) إلا شــروطاً حللت محرّمـــاً                

    أو عكســـه فبــاطلات فاعــلمــا

   هذان البيتان في بيان أصل كبير ، وقاعدة كبيرة في الشروط الصحيحة والشروط   الباطلة ، فإن الشروط نوعان : شروط صحيحة وشروط باطلة في جميع العقود ، سواء عقود البيع أو الإجارة أو الرهن أو النكاح أو غير ذلك ، فالشروط على نوعين : صحيح وباطل ، أما الصحيح : فهو كل شرط فيه مصلحة لأحد الطرفين ، أو فيه مصلحة للطرفين ، وليس فيه محذور ولا مخالفة للشرع ، هذا هو الشرط الصحيح ، وهذا كما قلنا يدخل في البيع والشراء والإجارة والرهن والنكاح والضمانات وغيرها ، وأما الشرط الباطل : فهو الذي يتضمن تحليل حرام أو تحريم حلال ، وهذا يدخل أيضاً فيه جميع الشروط سواء كانت في البيع أو الرهن أو النكاح ، فمتى اشتمل العقد على تحريم الحلال أو تحليل الحرام كان شرطاً باطلاً ، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم (( كلُ شرطٍ ليس في كتابِ الله فهو باطلٌ وإنْ كان مائة شرط ))(13) يعني ولو اشترط مائة شرط إذا كانت ليست في كتاب الله ، فلا قيمة لها بل هي باطلة لاغية لا تلزم  العبد 0

والشروط تارة تكون لفظية مذكورة في العقد باللفظ ، وتارة تكون عرفية يعني تعارف أهل البلد على هذا الأمر ، بحيث أن كل من باع أو اشترى أو تزوج يعرف هذا الشرط ، وتارة تكون شروطاً شرعية مثل : أن من باع ذهباً بذهب لا بد من التقابض والتماثل ، فإذا انتفى هذان الشرطان بطل العقد ، ولو اشترط أحدهما التأجيل كان شرطاً باطلاً لأنه يخالف الشريعة ، فإذاً هذا يكون قاعدة عامة أن الشروط الصحيحة ما كان فيه مصلحة لأحد الطرفين أو لكلاهما ولا يكون فيه مخالفة للشرع ، والشرط الباطل ما يتضمن تحليل حرام أو تحريم حلال ، وهذا يدخل في كل أنواع   العقود ، وإذا تعاقد اثنان على عقد ، واشترط أحدهما شرطاً فإذا لم يف الآخر به فله أن يفسخ العقد 0

 (41) تستعمل القرعة عند المبهــم             

          مــن الحقــوق أو لــدى التزاحـم

 هذا البيت في بيان أن القرعة من الشرع ، وأنها معمول بها في الشريعة ، القرعة أمر شرعي ويعمل بها في الشريعة في بعض الأحيان ، متى ؟ قال :

تستعمل القرعة عند المبهم … ، يعني إذا جُهِل المستحق لحق من الحقوق ، ولا مزية لأحدهما على الآخر ، أي استويا وجهل من هو الذي يستحق دون صاحبه ، أو عند  التزاحم ، إذا تزاحم اثنان في حق ولم يكن لأحدهما مزية على الآخر ، مثل : أن يتشاح اثنان في الأذان ، أو يتشاح اثنان في الإمامة ، وكلاهما سواء في الحق ، لم يكن أحدهما احفظ من الآخر أو أعلم بالسنة من الآخر بل استويا ، عند ذلك يقرع بينهما ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه(14) ، لأن كل واحدة من نسائه لها الحق أن تسافر معه فاستويا في هذا الحق ، فكيف يحسم هذا الأمر ؟ وكيف يقدم هذه على هذه ؟ يكون ذلك بالقرعة ، إذن القرعة يعمل بها عند الإبهام 0

 ومما ذكروا من المسائل الفقهية : إنسان طلق امرأة ثم نسيها ، أو طلق امرأة مبهمة لم يعيّنها ، فقال إحدى نسائي طالق ، وكان عنده ثلاث أو أربع ،فعند ذلك يعمل بالقرعة فأيها خرجت قرعتها طلقت ، كذلك ورد في الحديث : أن رجلاً كان له ستة أعبد فلما مات أعتقهم ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق الباقي(15) ، لأنه ليس له في ماله إلا الثلث ، فإذاً القرعة أيضاً يعمل بها عند الإبهام ويخرج بالقرعة من يخرج اسمه ، وبها تحل المسألة ، فالقرعة إذاً تستعمل في الشرع إذا جهل المستحق لحق من الحقوق ، ولا مزية لأحدهما على الآخر أو حصل التزاحم في أمر من الأمور ولامرجح لأحدهما 0

 (42) وإن تسـاوى العمـلان اجتمعـا         

                  وفعـــل إحداهمـــــا فاستمعــا

 يعني إذا اجتمع عملان من جنس واحد ، وأفعالهما متفقة ، اكتفي بأحدهما ودخل الآخر فيه ، وذلك في مسائل منها : إنسان دخل إلى المسجد في صلاة الفجر ، فإذا صلّى ركعتي السنة دخلت فيهما ركعتي تحية المسجد ، لأن تحية المسجد ليست صلاة مقصودة بعينها ، وإنما المراد أن لا تجلس حتى تصلي ركعتين ، كذلك سنة الوضوء إذا نوى بها الراتبة ، إذا إنسان توضأ ونوى أن يصلي الراتبة وسنة الوضوء ، فإن سنة الوضوء تدخل في الراتبة ، قالوا كذلك : طواف المعتمر يكفيه عن طواف القدوم ، وكذلك طواف القارن الأول وسعيه يكفيه عن سعي الحج ، وهذا طبعاً لا يطرد في كل المسائل لأن في بعض المسائل تكون الواجبات مقصودة لعينها ، وأما إذا تساوى العملان واجتمعا في الأفعال دخل أحدهما في الآخر ، من ذلك أيضاً غسل الجمعة ، إذا اغتسل الإنسان للجنابة بعد الفجر من يوم الجمعة دخل فيه غسل الجمعة عند الجمهور ،  وعند الظاهرية(16) لا يجزئ حتى يغتسل غسلاً آخر للجمعة ولعل الأول أقوى 0

 (43) وكل مشغـولٍ فـــلا يشغَّــــل          

              مثالــــه المرهــون والمُسَبّــلُ

 هذا معنى قول الفقهاء في قاعدتهم المشهورة : المشغول لا يشغل ، مثل : إنسان رهن بيته ، هذا البيت مرهون فلا يصح بيعه ، فهذا البيت مشغول بالرهن لذلك لا يصح أن يدخل عليه عقد البيع ، كذلك لو كان هذا الأمر موهوباً ولكن إلى          أجل ، وهبت هذا البيت لفلان لا يصح أن تبيعه ، لو أن إنساناً وقف عبداً أو دابةً في سبيل الله لا يصح له بيعها لأنها مشغولة بالوقف ، فالمشغول لا يشغل ، كذلك من استؤجر في ساعة معينة أو في يوم معين لا يصح أن يستؤجر مرة أخرى ، إنسان استأجر عاملاً ليبني له جداراً في يوم السبت فلا يصح لهذا العامل أن يشغل ذمته بإجارة في نفس الوقت 0

وهذا يمكن أيضاً أن يعمل به حتى في العلميات ، أن الإنسان المشتغل بطلب العلم لا يُشغل بتجارة ، ولا ينبغي له أن يَشغل نفسه بتجارة إذا كان يريد التخصص في طلب العلم ، بل يتفرغ لهذا الباب حتى يبرع فيه ، وإذا تداخلت وتزاحمت الأشغال حصل النقص ، يقول الشافعي رحمه الله : لو تكلّفت شراء بقلٍ من السوق ما فقهت مسألة ، يعني الإنسان إذا اشتغل بالبيع والشراء والتجارة لا يمكن أن يفقه المسائل بعد ذلك ، لأنها تشغل البال ويقل الفهم ، فينبغي للمشغول بشيء ، أن لا يشغل نفسه بشيء آخر حتى يفرغ من الشاغل 0

(44) ومن يؤد عـــن أخيـه واجبـــاً               

         لــه الرجـــوع : إن نوى يطالبــا

   معنى هذا أنَّ من أدّى عن غيره ديناً واجباً بنية الرجوع ، أي نيته بعد أن يؤدي عنه الدين ، أن يرجع إليه ويقول له : أعطني ما أديت عنك ، فيلزم المؤَدى عنه ما أداه عنه ، يلزمه ما أداه عنه إذا نواه ( أي الرجوع ) ، إما إن كان قد نوى التبرع فليس له الرجوع ، إذا كان قد نوى التبرع في أداء الدين عن أخيه فليس له أن يرجع إليه ويطالبه بالديَّن ، ويدخل في هذا جميع الديون من القرض والسلم وأثمان السلع والنفقات الواجبة للزوجة أوالمملوك أو الأقارب أو البهائم ، كذلك يدخل في هذا قضاء الكفيل عن المكفول ، الكفيل لو ألزم بأن يؤدي الديَّن عن المكفول ونوى بأدائه لهذا الحق عنه الرجوع فإنه يرجع عليه ، هذا كله إذا نوى الرجوع وإذا لم ينو الرجوع فأجره على الله تعالى ، وهذا قالوا في الديون التي لا تحتاج إلى نية ،

 لكن مثلاً : الزكاة ، الزكاة في ذمة الإنسان دين ولا يصح أدائها بلا نية ، ولهذا لو أن في ذمة زيد مائة دينار زكاة ،  وجاء عمرو وقال لزيد : أنا أديت عنك هذه المائة دينار الزكاة التي في ذمتك ، فإنها لا تصح منه ، حتى ينوي زيد ، ويوكله قائلاً : وكلتك في أن تدفع عني الزكاة واعتبرها ديناً علي ، هذا يصح ، ولهذا كثير من الناس الآن يؤدي الزكاة عن زوجته ، يكون على زوجته زكاة الذهب فيزكي عن زوجته قبل أن تأذن له ، وهذا لا يسقط الزكاة من ذمة زوجته لأنها لم تأذن له ، فإذا أذنت له بذلك ونوت الزكاة بما يدفعه زوجها سقطت من ذمتها ، إما الديون التي لا تحتاج إلى نية كديون العباد ، هذه لا حرج فيها ، أما الديون التي فيها نية كالزكوات والكفارات والنذور ، هذه كلها ديون تحتاج إلى نية ، فلا يؤد عن غيره إلا بإذنه 0

(45) والوازع الطبْعي عن العصيـــان 

                 كالـوازع الشرعــــي بلا نكــــران

  الوازع الطبعي : يعني الذي يوجب ترك الشيء في النفس ، النفس فيها وازع مانع يمنعها من أشياء بالفطرة ، مثل : أكل النجاسات ، أو شرب النجاسات ، هذا وازع طبعي ، والله سبحانه وتعالى لم يمنع المسلمين من ذلك ، أو ينزل بذلك آية بخصوصها ، لأنها وازعات طبعية ، أما الوازعات الشرعية فكالنهي عن الفواحش ، لأن الفواحش تميل لها النفس بطبعها ، بخلاف الوازع الطبعي الذي يمنعك عن الأشياء المستقذرة ، أو الأشياء المستقبحة في الفطرة كأكل النجاسات ، وأكل السموم وما أشبه ذلك ، فالمحرمات التي تنفر منها النفوس لم يُرتَّب عليها حد ، لكن للإمام أن يرتّب عليها تعزيراً ، سمعنا أن بعض الناس يتعاطى الحشرات ، يأكل بعض الحشرات أو يجفف بعض الحشرات ويستنشقها من أجل السكر بها مثلاً ! للأسف الشديد مثل هذه الأمور القبيحة قد تسربت إلى بعض المسلمين ، مثل هذا يحتاج إلى تعزير ، إلا إذا ثبت فيه  الاسكار فإن فيه حد السكر ، فإذا لم يُرتب عليها عقوبة في الشرع ، بل جاءت هكذا بلا عقوبة محددة ، وهي مما يعرف قبحه وقذارته بالطبع ، فإن فيها التعزير 0

وكلما كان شوق الإنسان للمعصية أكبر ، والمعصية عليه أسهل وأقرب كان الوازع أشد ، كما في قوله عليه الصلاة والسلام (( لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره )) لِم ؟ لأن امرأة الجار قريبة ، ويمكن يحصل بدون أن يعلم به أحد ، لقرب البيت ، وقرب الباب ، وكثرة الرؤيا ، وما أشبه ذلك فقد تقع علاقة (( لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره ))(17) لم ؟ لأن بيت الجار ربما لا يفصله إلا جدار ، ويسهل عليه أن يسرق منه . لهذا كلما كان الأمر أسهل وأيسر وهو قبيح زادت الشريعة في التعزير أو في العقوبة والذنب 0

 (46) والحمد للـــه عـلـى التمــام

             فـــي البـــدء والختــــام والــدوام

(47) ثم الصلاة مع ســـلام شائـع      

             علــى النبــي وصحبــــه والتابـع

  فنحمد الله سبحانه وتعالى في مبدأ الأعمال وختماها ، واستدامة الحمد من أسباب الزيادة في النعمة والفضل والكرم من الله سبحانه وتعالى ، وحمد الله على النعم يوجب بركتها ونماءها وكثرتها ، وحفظها من الزوال ، وحفظها من الآفات ، نسأل الله سبحانه وتعالى بمنه وكرمه أن ينفعنا بما سمعنا في هذه الرسالة من الفوائد ، ورحِم الله تعالى ناظمها رحمة واسعة ، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين 0    

الهوامش:

(1) سورة الضحى (11) 0

(2) سورة إبراهيم (34) 0

(3) سورة الزمر (53) 0

(4) سورة إبراهيم (31) 0

(5) سورة الإسراء (1) 0

(6) سورة الفرقان (1) 0

(7) وقد سبق بيان شيئ من ذلك عند البيت (30) 0

(8) سورة الزمر (65) 0

(9) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/499) 0

(10) سورة تبارك (2) 0

(11) رواه أحمد وغيره عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ( إرواء الغليل ـ7/298) 0

(12) رواه مسلم عن بن عمر رضي الله عنهما (13/171 ـ نووي ) 0

(13) رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها (10/145 ـ نووي ) 0

(14) ورواه البخاري (5/257 ـ فتح ) ، ورواه مسلم (15/309 ـ نووي ) عن عائشة رضي الله عنها 0

(15) رواه مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه (11/139 ـ نووي ) 0

(16) المحلى (2/42) 0

(17) رواه أحمد وقال العلامة الألباني إسناده جيد ( السلسلة الصحيحة ـ1/136) 0

 

زر الذهاب إلى الأعلى