فقه

شرح القواعد الفقيه- للسعدي 2-

  شرح القواعد الفقيهة للسعدي

  

(11) النـيـة شــرط لسـائـر العمــل    

                بهــاالصـــلاح والفساد للعمل 

        أول هذه القواعد التي ابتدأ بها المصنف رحمه الله تعالى قوله : النية شرط لسائر العمل ….. ، هذه القاعدة قاعدة عظيمة متعلقة بنية العبد ، ونية الإنسان عليها مدار الصلاح بالقول والعمل ، وصلاح الأعمال سواء كانت أعمالا بدنية كالصلاة ، أو مالية كالزكاة ، أو مركبة منهما كالحج والجهاد ، صلاح هذه الأعمال كلها بالنية وفساد هذه الأعمال بالنية أيضاً ، فإذا صلحت النية صلحت الأقوال والأعمال وإذا فسدت النية فسدت الأقوال والأعمال ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ))(1)  0

يعبر أصحاب كتب القواعد عن هذه القاعدة بقولهم : ( الأمور بمقاصدها ) هذه قاعدة فقهية عظيمة ، وهي إحدى القواعد الفقهية الخمس التي يرجع إليها اكثر القواعد ، وقد بين العلماء أن للنية مرتبتان كما بين الشارح(2) هنا أيضاً : أحدهما : تمييز العادة عن العبادة فالنية تميز العادة عن العبادة ، إنسان يقوم ويغتسل يقصد التبرد لا يصلح أن يكون غسله هذا نائباً عن غسل الجنابة أو عن غسل الجمعة ، لأنه لم يقصد غسل الجنابة أو الجمعة إنما قصد التبرد عادة ،  إنسان ترك الطعام من الفجر إلي مغيب الشمس ولم ينو الصيام ولم يقصد الصيام ، فهذا لم تحصل له العبادة ، لأن النية لم توجد نية التقرب إلي الله عز وجل بهذا العمل لم توجد ، فإذاً النية تميز بين العادة والعبادة  0

المرتبة الثانية : أن النية تميز بين العبادات نفسها بين الفرض والسنة المؤكدة ، وبين السنن والنوافل ، وبين الفرض والكفارة ، وهكذا فالنية تميز العبادات بعضها عن بعض ، فالإنسان إذا دخل المسجد ونوى أن يصلى سنة الظهر القبلية لو شغل بعد ذلك وهو قد صلى أربع ركعات هل يصح أن يقول هذه عن صلاة الظهر ؟ لا يصح لأنه قصد السنة القبلية ، إذاً فالنية تميز العبادات بعضها عن بعض وتميز العبادات عن العادات 0

وأيضاً النية لها أمر ثالث يقصده علماء السلوك والوعظ ، ألا وهو : الإخلاص وهو أن يقصد الإنسان بعبادته وجه الله تعالى لا يريد جزاء من الناس ولا شكورا ، فإذا نوى بصلاته ثناء الناس فليس له عند الله أجر ، إذا قصد بصدقته ثناء الناس بأنه محسن وجواد لم يحصل له به أجر ، إذا نوى بجهاده نصرة قومه فقط حمية وعصبية دون أن يكون له قصد في نشر الإسلام ، أو في رفع كلمة الله ، أو في الدفاع عن حرمة المسلمين ، فإن هذا لا أجر له في جهاده فلابد أن ينوى بأعماله وجه الله تعالى ، وقد قال العلماء : إن من نوى بعمله الجنة أو قصد الدخول إلي الجنة ورؤية وجه الله سبحانه وتعالى أو قصد بعمله النجاة من النار ، كل هذا لا يخالف الإخلاص . ويمكن للإنسان بنيته الصالحة أن يؤجر على طعامه وشرابه ونكاحه بأن ينوى التقوى على طاعة الله أن ينوى بالطعام والشراب أن يتقوى به على طاعة الله ، وينوى أيضاً بجماعه العفاف عن الحرام ، وينوى بنومه أن يتقوى على العبادة فتنقلب المباحات في حقه إلى مستحبات ، وطرق لكسب الحسنات والدرجات ، ويقصد كذلك مثلاً بنكاحه تكثير الأمة ، وإيجاد الشباب المسلم من نسله الذي يحمل القرآن ويدافع عن الإسلام 0

 أما ما يقصد العبد تركه مثل ترك النجاسة والتنزه عنها أو غسلها فإن هذا لا يحتاج إلى نية ، لو أن إنساناً غسل ثوبه من النجاسة وتطهر منه ، فهذا لا يحتاج إلى نية ،  سواء نوى أو لم ينو ، فالنية إنما تكون في المأمور ، فالمأمور به لابد له من نية ، وأما ما يقصد تركه فهذا لا يحتاج فيه إلى نية ، وأيضاً مثلوا لذلك أداء الديون ، من أدى دينه فقد سقط من ذمته وبرئت ذمته ولو لم ينو براءة الذمة 0

بالنية السيئة أيضاً قد تنقلب بعض المباحات إلى محرمات ، مثل إنسان يأكل ليتقوى بالطعام على جريمة ما ، على سرقة أو أن يعتدي على إنسان ، فطعامه في هذه الحالة يكون حراماً عليه ، ومثل إنسان يتزوج ثانية من أجل أن يضر الأولى ويقصد بزواجه بالثانية مضارة الأولى ، فهذا زواجه يكون حراماً ، لأنه نوى به شيئاً محرماً ألا وهو المضارة والاعتداء . وللنية مباحث طويلة وقد قال أئمة الإسلام أن حديث ( إنما الأعمال بالنيات ) يدخل في سبعين باباً من أبواب الفقه لا يكاد باب من أبواب الفقه إلا وتجد للنية فيه مدخلاً ولهذا عبر الفقهاء عنها بقولهم ( الأمور بمقاصدها)0

(12) الـدين مبنــي عـلى المصالح             

          في جـلـبهــا والــدرء للقبـائــح

   هذا أصل عظيم وقاعدة عظيمة من قواعد الدين العامة ، فالدين كله مبني على تحصيل المصالح في الدنيا والآخرة ، ودرء المفاسد في الدنيا والآخرة ، إذ ما أمر الله سبحانه وتعالى بأمر إلا وفيه مصلحة ، حتى قال بن القيم رحمه الله تعالى : (( إذا رأيت الأمر يخلو عن المصلحة وعن الحكمة والعدل والرحمة فاعلم أنه ليس من دين الله ))(3) يعني إذا رأيت أمراً ليس فيه مصلحة ولا عدل ولا رحمة ولا حكمة فاعلم أن هذا الأمر ليس من دين الله ، وهو قول أهل السنة والجماعة بخلاف المعتزلة الذين قالوا : إن الله عزوجل قد يأمر أمراً لا يكون تحته فائدة ولا مصلحة ! وهذا باطل ،  واحتجوا بقول الله عزوجل { لايسئل عما يفعل وهم يسألون }(4) وهذه الآية لا حجة فيها لما ذهبوا إليه بل الصواب أن الله سبحانه وتعالى لا يفعل شيئاً عبثا { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعلى الله الملك الحق }(5) يعني يتعالى الله عز وجل عن فعل مالا حكمة تحته ولا مصلحة تحته ولا رحمة تحته ، فأفعال الله عزوجل كلها حكمة كما قال تعالى { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون }(6) فقد تخفى علينا الحكمة ، ماالحكمة من جعل صلاة الظهر أربعاً والعصر أربعاً والمغرب ثلاثاً والعشاء أربعاً ؟ قد تخفى علينا الحكمة في أعداد الركعات ، لكن هل نقول إن هذه ليست لحكمه ؟ بل هي لحكمة وحكمة عظيمة بالغة ، فكل ما أمر الله سبحانه وتعالى به من الأوامر يحصل المصالح للعبد في الدين والدنيا ، وكل ما نهى الله عنه لم ينه عنه إلا لمضرته ، وقد يخفى على الإنسان وجه المضرة في هذا الباب ، لكنه إن تركه امتثالاً لأمر الله ، واعتقاداً أن الله سبحانه وتعالى لم يبخل على الإنسان فحرّم عليه المحرمات بخلاً ، إنما حرمها عليه رفقاً به ورحمة ومصلحة ، هذا يجب أن يعتقده الإنسان المسلم وإن كان لا يحيط به ، فليس كل العلوم يقدر على الإحاطة بها ، ولا كل شئ يمكن أن يعلمه ويصل إلى غايته ومصلحته 0

ومن أعظم ما أمر الله سبحانه وتعالى به التوحيد الذي هو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة وبما يجب  له من الأسماء الحسنى والصفات العلى قال الشارح(7) رحمه الله : ( فالتوحيد مشتمل على صلاح القلوب وسعتها ونورها   وانشراحها وزوال أدرانها أدران الشرك والشك والشبهات ، وأعظم ما نهى الله الشرك في العبادة والشرك في الأسماء والصفات ، الذي هو فساد وحسرة في القلوب والأبدان والدنيا والآخرة ، فكل خير في الدنيا والآخرة فهو من ثمرات التوحيد ، وكل شر في الدنيا والآخرة فهو من ثمرات الشرك 0

ومما أمر الله به : الصلاة والزكاة والصيام والحج الذي من فوائد هذا انشراح الصدر ونوره وزوال همومه وغمومه ونشاط البدن وخفته ونور الوجه وسعة الرزق والمحبة في قلوب المؤمنين وفي الزكاة والصدفة ووجوه الإحسان زكاة النفس وتطهيرها وزوال الوسخ والدرن عنها ودفع حاجة أخيه المسلم وزيادة بركة ماله ونماؤه وما في هذه الأعمال من عظيم ثواب الله الذي لا يمكن وصفه ومن حصول رضاه الذي هو أكبر من كل شيءٍ وزوال سخطه  0

وكذلك شرع لعباده الاجتماع للعبادة في مواضع ، كالصلوات الخمس ، والجمعة ، والأعياد ، ومشاعر الحج ، والاجتماع لذكر الله ، والعلم النافع ، لما في الاجتماع من الاختلاط الذي يوجب التوادد والتواصل ، وزوال التقاطع والأحقاد بينهم ، ومراغمة الشيطان الذي يكره اجتماعهم على الخير ) ا.هـ 0

لاحظ ماذا في اجتماع المؤمنين والأخوّة في الله ماذا يكون في اجتماعهم من خير وتواصل وتوادد ، وزوال التقاطع ، ومراغمة الشيطان الذي يكره الاجتماع ويحب التفرق ، فلا يسعى في الفرقة إلا من جهل هذه المصالح ، فمن المسلمين من يفارق إخوانه على أتفه الأسباب وينسى هذه المصالح العظيمة التي ذكرناها !ثم قال رحمه الله : ( وحصول التنافس في الخيرات ، وإقتداء بعضهم ببعض ، وتعليم بعضهم بعضاً ، وتعلم بعضهم من بعض ، وكذلك حصول الأجر الكثير الذي لا يحصل بالانفراد ، إلى غير ذلك من الحكم ) ا.هـ 0

صلاة الفذ ليست مثل صلاة الجماعة ، المسجد الذي يكثر عدد رواده أعظم أجراً في الصلاة من المسجد القريب ، لذلك كره السلف كثرة المساجد التي تفرق المؤمنين ، كما أشار الله عز وجل إلى مسجد الضرار { وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين }(8) 0

ثم قال رحمه الله : ( وأباح سبحانه البيع والعقود المباحة ، لما فيها من العدل ، ولحاجة الناس إليها …..إلى آخر ما قال رحمه الله ) ا.هـ 0

ولنعلم يا أخوة أن المصلحة المعتبرة هي ما جاءت بها الشريعة ، أما ما جاءت الشريعة بإلغائه وباعتبار فساده ، فهذا لا يسمى مصلحة وإن عده الكفار مصلحة ، فقد يرى بعض الناس أن الربا مصلحة لكن الربا في الإسلام فساد وضرر ، فإذاً المصالح ما جاءت الشريعة باعتبارها ، والمفاسد ما جاءت الشريعة بنفيها وتقليلها وإبعادها ، ومن أراد الزيادة فليرجع إلى ما قاله بن القيم رحمه الله في كتابه مفتاح دار السعادة   وغيره 0

(13) فإن تَزَاحَم عَــدَد المصالح         

       يقدّم الأعلى مـن المصالـــح

    يعني إذا تزاحمت المصالح بحيث أنه لا يمكن الجمع بين المصلحتين ففي هذه الحالة يفعل أعلى المصلحتين ويفوّت الأدنى منهما ، لكن إذا كان يمكن الجمع بين المصلحتين قام بالمصلحتين جميعاً ، أما كلامنا هنا فعن التزاحم ، عن تزاحم المصالح يعني لا يمكن للإنسان أن يأتي بالمصلحتين معاً ، يستحيل عليه ذلك ، ففي هذه الحالة يراعى الأكبر من المصلحتين .

  الأمثلة على ذلك : إذا كان إحدى المصلحتين واجباً والآخر سنة يقدم الواجب على السنة مثل إذا أقيمت الصلاة المكتوبة فلا صلاة غيرها ، لا يجوز للإنسان أن يشتغل بالسنة عن المكتوبة ، وكذلك إذا ضاق الوقت بحيث أنه لم يعد يسع إلا المكتوبة ، مثل : إنسان استيقظ قبل طلوع الشمس بمقدار لا يسمح له إلا بصلاة الفجر ، فهل يصلى الراتبة حتى تطلع الشمس أم يبدأ بالمكتوبة ثم يصلي الراتبة ؟ يبدأ بالمكتوبة لئلا يضيع عليه الفرض 0

كذلك قالوا إذا لم يبق بين المسلم وبين رمضان إلا عدد الأيام التي أفطرها فلا يجوز له أن يشتغل بتنفل ، لأنه لم يبق إلا أيام تسمح له بقضاء الواجب من رمضان السابق ، فإذاً إذا تعارض الفرض والنافلة أو السنة يقدم الفرض 0

وإذا كانت المصلحتان واجبتين يقدم الأوجب ، مثل : أن يتعارض صيام القضاء من رمضان مع صيام النذر ، يقدم الأوجب وهو صيام القضاء ، لأن ما أوجبه الله أعظم مما أوجبه هو على نفسه بالنذر ، إذا تعارضت أو ضاقت النفقات  مثلاً : كان ينفق على بيته وأولاده وينفق على أقاربه ، ثم ضاقت النفقة ، فإنه يبدأ بالزوجة والأولاد ثم الأقارب ، أما أن يعطي الأقارب ويترك الزوجة والأولاد يكون قد خالف الأولوية في الصرف ، كذلك لو كان عنده مماليك وعنده بهائم وضاقت نفقته يبدأ بالمماليك على البهائم 0

إذا كانت المصلحتان جميعاً من السنة يقدم الأفضل فتقدم الراتبة على السنة المطلقة أو النفل ، لأن الراتبة كان النبي عليه الصلاة والسلام يحافظ عليها في اليوم والليلة بخلاف النافلة ، ويقدم أيضاً ما فيه نفع متعد على النفع القاصر ، مثل : أن يتعارض تعليمه للناس مع صيام النفل ، يقدم التعليم للناس على الصيام الذي هو تطوع قاصر على نفسه ، تقدم عيادة المريض على صلاة نافلة لأن عيادة المريض فيها نفع متعد ، كذلك تقدم الصدقة على القريب على الصدقة على أجنبي ، لأن البر للقريب فيه أجران أجر الصدقة وأجر الصلة صلة الرحم 0

لكن أحياناً يعرض للعمل المفضول ما يجعله أفضل من الفاضل بسبب اقتران ما يوجب التفضيل من وقت ونحوه ، مثاله : أن يقرأ القرآن ثم يؤذن المؤذن فأيهما أفضل أن يجيب المؤذن أو أن يتم قراءته للقرآن ؟ الجواب : أن يجيب المؤذن لأن هذا أفضل في وقته ، ولأن وقته ينقضي ، بخلاف القرآن فالإنسان يستطيع أن يقرأه في كل وقت ، وإن كان القرآن أفضل من كلمات الأذان لكن هنا لأنه وُجد ما يوجب التفضيل ألا وهو الوقت الذي ورد في السنة الترغيب في إجابة المؤذن ، أيضاً أحياناً يكون الذكر في موضعه أفضل من غيره فأذكار الركوع والسجود أفضل بل هي أوجب من قراءة القرآن ، وأحياناً يعرض للعمل المفضول شيءٌ آخر وهو : أن يكون مشتملاً على مصلحة للإنسان ، فبعض الناس مثلاّ يصلح قلبه على هذا العمل أكثر من غيره فيقدم هذا العمل على غيره ، مثل : رجل فتح الله له باباً في العلم وآخر فتح الله له باباً في الصيام ، فهذا صلاح قلبه في العلم ، وهذا يرى صلاح قلبه في الصيام ، فهذا لا ينكر على هذا وهذا لا ينكر على هذا ، قيل إن الإمام مالك رحمه الله جاءه رجل فقال له : ما أراك تصوم التطوع أو ما أراك كذا ؟ فقال : إن الله سبحانه وتعالى قد فتح لكل عبد باباً وإنه قد فتح لي باب في العلم فلا ينبغي أن ينكر علىّ أحد ، فإذا كان العمل المفضول أزيد مصلحة للقلب من الفاضل فينظر إلى ما هو أصلح للقلب فيفعله ، والأمام أحمد رحمه الله سئل عن بعض الأعمال : قال انظر إلى ما هو أصلح لقلبك فافعله ، فلهذه الأسباب وغيرها تصير الأعمال المفضولة أفضل من الفاضل بسبب ما يوجب التفضيل 0

(14) وضده تـزاحـم المفـاسـد            

       يُرتكب الأدنـى مـن المفاســد    

        المفاسد إما محرمات وإما مكروهات ، كما إن المصالح إما واجبات وإما مستحبات ، فإذا تزاحمت المفاسد بمعنى أنه لا يقدر على ترك الجميع وإلا فالأصل أن يترك الجميع لكن إذا لم يقدر على ترك الجميع فماذا يفعل ؟ إذا اضطر إلى أن يفعل إحداها فعليه أن لا يرتكب الكبرى بل يرتكب المفسدة الصغرى ، بمعنى يرتكب أهون الشرين دفعاً لأعلاهما ، فإذا كانت إحدى المفسدتين حراماً والأخرى مكروهة يرتكب المكروه لأن الحرام أعلى من المكروه ، مثل : إذا عرض له طعام الأول مشتبه فيه ،  والثاني حرامٌ قطعاً يأكل من المشتبه فيه ، هذا إذا لم يجد الحلال الخالص واضطر إلى هذا الأمر ، فإنه يأكل من المشتبه فيه لأنه أخف تحريماً ، وإذا كانت المفسدتان جميعاً حراماً فإنه يقدم الأخف ، لأن الحرام أيضاً ليس على درجة واحدة ، بل بعضه أشد حرمة من بعض ، فالله سبحانه وتعالى مثلاً قال { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا }(9) ولما ذكر الزواج  بامرأة الأب ماذا قال ؟ قال { ولا تنكحوا ما نكح آبائكم من النساء إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلا }(10) فإذاً الزواج بامرأة الأب أخبث من مجرد الزنى العادي ، ولذا فالزنى بالمحارم والعياذ بالله أعظم عند الله من الزنى بالأجنبيات ، بل هذا فيه القتل(11) وذاك فيه الحد أو القتل رجماً إذا كان محصناً ، فالمحرمات مراتب في الصغر والكبر فإذا اضطر بأن تزاحمت المفاسد عنده فإنه يرتكب الأدنى من المفاسد وهذا من القواعد العظيمة التي جاءت بها الشريعة 0

(15) ومن قواعـد الشريعــة التيسيــر    

              في كـل أمـرٍ نـابـه تعسيـــر

        ومن قواعد الشريعة العظيمة التيسير لأن الشرع مبنيٌ على التيسير ورفع الحرج كما قال الله عز وجل { ما جعل الله عليكم في الدين من حرج }(12) وقال سبحانه وتعالى { يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر }(13) فالله سبحانه وتعالى قد بنى دينه على الرأفة والرحمة والتسهيل على الناس ، و لذلك فإن الله عز وجل من فضله وإحسانه وكرمه أنه لم يكلف العباد إلا ما يطيقون كما قال عز وجل { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها }(14) ولم يأمرهم بالإنفاق إلا من سعتهم وما يستطيعون ، فلم يكلفهم من الأعمال إلا ما يطيقون ولم يأمرهم بالإنفاق إلا مما يستطيعون ويقدرون ، فشرع الله عز وجل مبنىٌ على التيسير ورفع الحرج والمشقة ، وإذا أمر الله سبحانه وتعالى بأمرٍ أو نهى عن شيءٍ ، علمنا أن هذا الأمر الذي أمر به يطيقه غالب العباد ، وإذا نهاهم عن شيء علمنا أن غالب العباد يطيقون تركه ويستغنون عنه ، وقد ذكرنا أن الله سبحانه وتعالى لا يأمر إلا بما فيه مصلحة لنا ، ولا ينهانا إلا عما فيه مفسدة وشر لنا  وضرر علينا ، ومع هذا فإذا أمرنا الله سبحانه وتعالى بأمرٍ وحصل ظرف يجعل هذا الأمر عسيراً شديداً ، يأتي الشرع بتخفيفه وتيسيره ، فمثلاً أمرنا الله سبحانه وتعالى بالصيام لكن إذا سافر الإنسان في الغالب أنه يشق عليه الصيام ، لذا جاء التيسير بالنسبة للمسافر في أن له الحق في الفطر ، فخفف الله عز وجل عنه ، وكذلك الإنسان الصحيح السليم في الغالب يستطيع الصيام ، لكن إذا مرض شق عليه الصيام ، فأباح الله تعالى له الفطر وخفف عنه الصيام ، وتخفيف الله عز وجل إما أن يكون بإسقاط الفرض بالكلية ، أو بتأجيله ، أو بأدائه مع التخفيف والتيسير ، فالتخفيف على أوجه :  فمن ذلك مثلاً في العبادات : التيمم عند فقد الماء ، أو التيمم عند عدم القدرة على استعمال الماء ، إما لبرد شديد ، وإما لمرض أو جراحة في البدن تمنع من استعمال الماء على ما ذكر تفصيله في كتب الفقه ، كذلك القيام في الصلاة فرض ومع ذلك فإنه يخفف عن المريض بجواز أن يصلي قاعداً ومضطجعاً ، وكذلك قصر الصلاة للمسافر أيضاً من قواعد الشريعة في التيسير ، وكذا الجمع بين الصلاتين في السفر من التيسير ،  وفي المطر من التيسير ، وفي الخوف والمرض كله من التيسير على الناس والرخصة لهم ، ومن التخفيفات أيضاً : تعجيل الزكاة إن نزلت بالمسلمين حاجة ، كأن حصلت مجاعة أو حصل ضرر على بعض الناس ، واحتاج الناس حاجة عظيمة ، جاز للإنسان أن يعجل زكاته لنفع الفقير ، وهكذا لا تجد باباً من أبواب الفقه والدين في المعاملات والبيوع والمناكحات إلا وتجد فيه التيسير من عند الله عز وجل ، فهذه قاعدة عظيمة من قواعد الشرع يعبر عنها الفقهاء بلفظ ( المشقة تجلب التيسير ) ، في كل أمرٍ تجد فيه تعسيراً لا بد أن تجد فيه باباً للتيسير 0

لكن هنا مسألة ينبه عليها ألا وهي : أن التيسير لا بد أن يكون شرعياً ، بمعنى لا يجوز لنا بدعوى التيسير أن نتفلت من أحكام الدين ، أو أن نرتكب الحرام الصريح ، مثل أن يقول قائل : ما دام أن اليوم يغلب على حياة كثير من المسلمين التعامل بالربا ، ووجود البنوك الربوية ، فنظراً لهذه الكثرة وحاجة المسلمين يجوز للإنسان أن يأكل الربا ! أو أن يبني بيته بالربا لحاجته إلى سكنى البيت ! أو أن يشترى سيارة بالربا ! ونحو ذلك فهذا ليس تيسيراً في محله بل هو في الحقيقة حرج لأن الله تعالى جعل اليسر في طاعته وليس في معصيته ، كما قال سبحانه وتعالى { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب }(15) وقال { ومن يتق الله يجعل له من أمره   يسرا }(16) فاليسر لا تجده في معصية الله . وجاء أيضاً في الحديث (( إن روح القدس نفث في رُوعي ( يعني في صدري وفي نفسي ) أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها  وأجلها فاتقوا الله واجملوا في الطلب وأعلموا أنما عند الله لا ينال بمعصيته ))(17) فقد يستعجل الإنسان الرزق ويقول تأخر علىّ الرزق ويستبطىء الرزق فماذا يفعل ؟ يريد أن يأكل الحرام ويظن أنه بذلك يصل إلى الرزق لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أعلم  أيها المسلم أنما عند الله لا ينال بمعصيته ، متى سلكت طريق الحرام فقد ضيقت الأمر ،  وشددت على نفسك ، لكن أتق الله وأجمل في الطلب ، يعني لا تتهالك على طلب الرزق والدنيا ، وإنما ليكن سؤالك للدنيا بالوجه الجميل الذي يدل على تقديرك لهذه الدنيا الفانية ، وأنها دنيا لا بقاء لها ، شدائدها لا بقاء لها ورخائها لا بقاء له . 

(16) وليس واجب بلا اقتــدار              

        ولا محـرم مـع اضـطــرار

(17) وكل محظور مع الضـرورة             

       بقـدر ماتحتاجـه الضــرورة

   في هذا البيت قاعدتان عظيمتان وهما : أنه لا تكليف إلا بما يستطاع ، ولا يوجب الله سبحانه وتعالى على عباده إلا ما يقدرون عليه ، وأنه لا محرم مع الضرورة ، فالله سبحانه وتعالى قد فرض عليهم فرائض ، وحرم عليهم محرمات ، فإذا عجز الإنسان عن الإتيان بالمأمور به ، وضعفت قدرته عنه ، ولم يستطع الإتيان به ، فإنه إما أن يأتي منه ما يقدر عليه كما قال عليه الصلاة والسلام (( فإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم ))(18) وقال عزوجل { فاتقوا الله ما استطعتم }(19) فإذا أُمر الإنسان بأمر ولم يقدر على الإتيان بهذا الأمر تاماً كاملاً كما هو ، فإنه يأتي منه ما يقدر عليه ،  فما لا يدرك كله لا يترك كله ، وربما سقط عنه بالكلية إذا لم يقدر عليه ، أو كان الأمر مما لا يتجزىء  ، فبعض الواجبات لا تتجزىء ، فربما سقط عنه بالكلية  ، فالواجب إذاً كما ذكرنا في التيسير ، أن الشريعة قد جاءت بالتيسير في كل أمر نابه تعسير ، وأن الله سبحانه وتعالى أجاز للمريض التيمم بدلاً عن الوضوء ، وأجاز له الفطر عند المرض وعند السفر ، وأجاز له أن يصلي قاعداً إذا لم يقدر على الصلاة قائماً ، وما أشبه ذلك من التيسير الذي جاء في الشريعة ، فإذاً لا واجب بلا قدرة ، فإذا كان الأمر واجباً على إنسان لكنه لا يقدر على الإتيان به فإنه يأتي منه ما استطاع 0

ومثاله أيضاً حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ))(20) فإذاً الإنسان إذا كان قادراً على تغيير المنكر بيده قدرة بدنية وقدرة شرعية ، وبعض الناس يظن أن المطلوب فقط هو القدرة البدنية ، هناك أيضاً قدرة شرعية أو سلطة لك على تغيير هذا المنكر ، فإن كان المنكر في بيتك فأنت مأمور بإزالته بيدك ، لأن المنكر قد وقع في سلطانك وأنت الآمر الناهي في بيتك ، ولذلك لا تعذر بترك المنكر في بيتك إلا أن تزيله بيدك ، إنسان سمع في بيته صوت معازف وغناء لزمه أن يزيل ذلك بيده ، إنسان مر بالسوق فسمع في دكانٍ صوت غناء ومعازف ، أو رأى دكاناً يبيع آلات الطرب واللهو أو يبيع الصور المحرمة ، فإنه في هذه الحالة لا يملك التغيير باليد ، لأن الأمر ليس في سلطانه ، كما لو رأى منكراً في بيت جاره ، ففي هذه الحالة ينتقل إلى الأمر والنهي بلسانه ، لأنه لا يقدر عليه بيده ، لأن منكرات الأسواق يزيلها أهل الحسبة الذين لهم أن يزيلوا المنكر بالقوة وباليد ، فإذا استعصى عليهم الأمر استعانوا بالشرط لأنهم قادرون على ذلك ومسلطون من قبل الإمام ، بخلاف الواحد منا فإنهم لا يملك إلا تغيير المنكر باللسان 0

قد يضعف الإنسان عن ذلك أيضاً ، مثل أن يكون في مكان لايقدر فيه على إنكار المنكر ، ولو تكلم لقتل أو أصابه ضرر كسجن وضرب ، ففي هذا الحالة ينتقل إلى إنكار المنكر بالقلب ، وهي درجة لا ينبغي أن تفارق قلب مؤمن ، لأنها إذا فارقت قلب المؤمن دل على أن هذا القلب لا يوجد فيه إيمان بأمر بمعروف ونهي عن منكر ، كما جاء في حديث مسلم (( وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ))(21) فالإنكار بالقلب ينبغي أن يظل ، ولا شك أن القلوب إذا اعتادت رأيت المنكر تأثر إنكارها إلى الضعف والقلة ، الإنسان إذا رأى منكراً لأول مرة أنكره قلبه بشدة لكن إذا رآه للثانية والثالثة والرابعة ، وصار في كل يوم يراه فإن هذا الإنكار يقل في القلب ، فينبغي له أن يذكر نفسه بين فترة وأخرى بأن هذا الأمر من المنكر الذي حرمه الله عزوجل 0

والقاعدة الثانية : أنه لا محرم مع اضطرار ، بمعنى أن الإنسان إذا اضطر إلى فعل المحرم الذي ذكرنا في أول المنظومة أن الله عزوجل ما حرمه علينا إلا لمصلحتنا ،  وحماية وصيانة لنا عن الشر ، وعن ما يؤذينا في بدننا وفي ديننا ، لكن إذا اضطر الإنسان إلى المحرم جاز له فعله ، لأن ((الضرورات تبيح المحظورات )) كما يعبر الفقهاء ، كأكل الميتة أو شرب الماء النجس عند الضرورة وما أشبه ذلك ، أيضاً في العبادات كفعل المحظورات في الحج ، ويستدل على ذلك  بقول الله عزوجل { إلا ما اضطررتم إليه }(22) وقال عزوجل { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم }(23) والمخمصة هي المجاعة ، فالمضطر في المخمصة والمجاعة لأكل الميتة فهذا لا إثم عليه ، كما قال الله عزوجل ، بل يقول شيخ الإسلام في هذا المجال كلاماً عجيباً نفيساً يقول : إن الإنسان إذا اضطر إلى أكل الحرام فإن الضرر الواقع قَدَراً يزال . يعني إذا اضطر الإنسان إلى أكل شيء محرم فإن هذه الضرورة التي أباحت له أن يأكل من الحرام ترفع عنه الضرر الواقع قدراً ، رحمةً من الله سبحانه وتعالى ، ولكن ينبغي أن نعلم أنه لا يؤخذ من المحظور إلا بقدر الضرورة ، يعني لا يتوسع الإنسان في الأكل من الميتة فوق الحاجة ، لقوله سبحانه وتعالى { فمن اضطر غير باغ  و لا عاد }(24) قالوا ( و لا عاد ) يعني متعدي في أخذه من الضرورة ،  بل كما قال الفقهاء الضرورة تقدر بقدرها ولعل هذه القاعدة مستقاة من قول الله عزوجل { فمن اضطر غير باغ و لا عاد } يعني لا يتجاوز الضرورة بل يقف عند ضرورته وحاجته 0

 (18) وترجـع الأحكــام لليقيــن                 

            فـلا يزيـل الشـك لليقيــن

        تتعلق هذه القاعدة بقاعدة عظيمة من قواعد الشريعة بل هي أحد القواعد الخمس وهي أن (( اليقين لا يزول بالشك )) وهذه القاعدة وهي أن اليقين لا يعارض بالشك أو أن اليقين لا يزول بالشك قاعدة عظيمة جداً ، ومعنى هذا أن الإنسان إذا تحقق شيئاً ثم شك هل زال ذلك الشيء المتحقق أو لم يزل ، فالأصل بقاء المتحقق فيبقى الأمر على ما كان عليه ، ودليل هذه القاعدة أن البخاري رحمه الله بوّب في صحيحه باب ( لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن ثم ذكر حديث عباد بن تميم عن عمه أن رجلاً سأل للنبي صلى الله عليه وسلم في الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم (( لاينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ))(25) ومثله الحديث الآخر وهو قوله عليه الصلاة والسلام (( إذا سمع أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ))(26) 0

 فهذا الحديث أصل في هذه القاعدة وهو أن الإنسان إذا توضأ فوضوءه قد حصل بيقين ، واليقين مأخوذ من يقن الماء يعني استقر ، فاليقين قوي قطعي ثابت جازم فلا ينهدم       بالشك ، والشك كما تعلمون هو التردد بين الشيئين ، التردد المطلق بين شيئين ، أما ماهو أقل من اليقين فالظن الغالب ، وهو ماترجح لك أحد الطرفين رجوحاً غالباً بحيث يطرح الثاني ، والظن هو مايترجح لك أحد الطرفين بإمارة فقط أو إشارة ، ولايكون هذا قاطعاً ، أما الظن الغالب فمعمول به في الشريعة كما قال عليه الصلاة والسلام     (( إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو مما أسمع ))(27) فالقاضي قد يأتيه خصمان ، أحدهما معه شاهدين زور فيترجح عند القاضي صدق هذا الرجل فيحكم له بالقضية ، وهو حكم له بالظن الغالب ، وقد يكون في نفسه كاذباً ، لكن ما دام أن معه شاهدين والآخر ليس معه شهود ولا بينة يحكم بالظن الغالب ، وقد يكون في نفس الأمر هذا الرجل ظالم 0 فالظن الغالب معمول به في الشريعة 0

وأيضاً العقل يقضي برجحان اليقين على الشك ، لأننا كما قلنا إن اليقين ثابت جازم قطعي ، وأما الشك فهو مجرد التردد ، فلو نظرنا إليه من جهة العقل لعرفنا أن اليقين يقدم على الشك ، وهذا باب قاطع للوسواس الذي يقع فيه كثير من الناس ، لأن الإنسان إذا اتبع الوسواس ضاقت عليه الأرض بما رحبت ويزيد معه كلما استرسل ، حتى ربما يصير داءاً مستعصياً ، وهذا دليل على نقصان دين هذا الرجل أو نقصان عقله ، لذلك قال بن القيم رحمه الله تعالى في إغاثة اللهفان (( ليس في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم موسوس ))(28) لأن إيمانهم كان قوياً قاطعاً ، وعملهم بالشريعة أيضاً كان ظاهراً ، فالذي يعمل بالشرع ويطيع الرحمن ويعصي الشيطان لا يقع في الوسواس ، لكن نسأل الله العافية أن الإنسان إذا حصل منه معصية بأن زاد على الوضوء والرسول عليه الصلاة والسلام توضأ ثلاثاً وقال (( فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم ))(29) ، فالزيادة على الغسل ثلاث مرات فيها مخالفة للرسول عليه الصلاة والسلام ،  وفيها طاعة لعدو الله تعالى الشيطان 0

وإذا شك الإنسان هل أحدث بعد تيقنه الطهارة أو لم يحدث ؟ فالأصل اليقين فلايزول هذا اليقين بالشك ، وكذا العكس : لو كان الإنسان متيقناً أنه لم يتوضأ ، وأراد الصلاة وشك هل هو توضأ أو لم يتوضأ ؟ فالأصل أنه لم يتوضأ ، فيعمل باليقين ، وهذا الأمر ليس خاصاً بالعبادات ، بل حتى في المعاملات وفي العقوبات وغيرها ، إذا شك الإنسان هل طلق امرأته أم لم يطلقها ؟ فالأصل أنها امرأته لم يطلقها ، كذلك لو شك هل تزوجها أو لم يتزوجها ؟ فالأصل أنه لم يتزوجها 0

ومن هذه القاعدة تفرعت قواعد منها الأصل بقاء ماكان على ماكان وهذه القاعدة فيها :  استصحاب الأصل عند عدم الدليل الشرعي ، فهذه من أدلة الاستصحاب ، وقد قال الله عزوجل { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله }(30) فله ما سلف يعني : ماكان قد كسبه بالربا قبل أن يأتي التحريم فله ، لأنه استصحب البراءة ، فالأصل بقاء ماكان على ماكان ، الأصل براءة الذمة من التكليف ومن الحقوق ، يعني أن الأصل أن الإنسان بريء من التكليف الشرعي ، ومن الحقوق التي تجب عليه للناس 0

وأيضاً مما يتفرع عن هذه القاعدة الأصل في الصفات العارضة العدم يعني أن يشتري الإنسان عبداً الأصل فيه أنه جاهل لا يقرأ ولا يكتب ، الأصل في الصفات المكتسبة العارضة أنها عدم غير موجودة ، إلا إذا قال : هذا العبد يقرأ ويكتب ويقرأ القرآن مثلاً ، فهذه صفات عارضة الأصل فيها العدم 0

أيضاً من هذه القاعدة أخذ العلماء قواعد في الاستدلال أيضاً فقالوا الأصل في الألفاظ الحقيقة أي يراد بها الحقيقة ، فلا يقال أن هذا اللفظ غير مراد حقيقة ، لأن الأصل هو بقاء هذا اللفظ على حقيقته ، وهو اليقين ، والانتقال عن اللفظ إلى غير الحقيقة هذا طارئ ، فالأصل أن الألفاظ على الحقيقة ولهذا أهل السنة قالوا : الأصل أن آيات الصفات وأحاديثها باقية على حقيقتها ، الأصل أن الأوامر للوجوب والنواهي للتحريم ، والأصل أيضاً : بقاء النص على عمومه حتى يأتي مخصص ، الأصل أن الآية غير منسوخة وأن الدليل غير منسوخ حتى نتيقن الناسخ ، الأصل براءة المتهم ، يقولون :  المتهم بريء حتى تثبت إدانته ، هذا ليس بقانون أوروبي بل هذا شريعة الرحمن ،  المسلمون سبقوا بذلك وشريعتهم سبقت كل القوانين الوضعية ، فالأصل أن الإنسان  ذمته بريئة من الحقوق ومن التكاليف حتى يثبت أنه قد كلف ، والإنسان بريء من الجرم حتى يثبت عليه هذا الجرم ، فهكذا نجد أن هذه القاعدة لها فروع كثيرة في الفقه من العبادات إلى المعاملات إلى العقوبات

(19) والأصل في مياهنا الطهــارة               

     والأرض والثيـــاب والحجــــارة

        وهذه قاعدة أيضاً فقهية عظيمة ، وهي أن الأصل في الأشياء الطهارة وذلك كالمياه ، ذكر الناظم أمثلة مثل : المياه والأرض وما عليها من شجر ومدر وحجر وتراب والثياب أيضاً وما أشبه ذلك ، وجميع أصناف الأشجار كل ذلك الأصل فيه الطهارة حتى نتيقن زوال أصلها بطروء النجاسة عليها ، إذا عرفنا أن هذا الأصل قد زال بأن طرأت عليها النجاسة فعند ذلك نجتـــنبها ، ولهذا فالإنسان إذا أراد أن يصلي في مكان الأصل فيه أنه طاهر ، ولا ينبغي أن يوسوس إذا أراد أن يصلي يقول لأهل البيت : هل هذا المكان طاهر ؟ هذه وسوسة تخالف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة ، وكذلك لو أراد أن يتوضأ من ماءٍ في البرّية ، الأصل فيه أنه طاهر ، ولو أراد أن يستعمل حجراً في الطهارة والاستنجاء الأصل فيه أنه طاهر ، لو أراد أن يستخدم خشباً لصنع شيء يجلس عليه مثلاً أو يستخدمه أو يركب عليه ، الأصل فيه أنه طاهر ، وهكذا المعادن وجميع ما خلق الله سبحانه وتعالى الأصل فيها كلها أنها طاهرة حتى نتيقن أنه قد طرأت عليها النجاسة وغيّرت هذا الأصل ونقلته إلى   النجاسة 0

الهوامش:

(1) رواه البخاري (1/163 ـ فتح ) ورواه مسلم (13/53 ـ نووي ) عن عمر رضي الله عنه 0

(2) (13 ـ 14) 0

(3) إعلام الموقعين (3/11) 0

(4) سورة الأنبياء (23) 0

(5) سورة المؤمنون (115) 0

(6) سورة البقرة (216) 0

(7) (16ـ20) 0

(8) سورة التوبة (107) 0

(9) سورة الإسراء (32) 0

(10) سورة النساء (22) 0

(11) الفتاوى الكبرى (2/191) 0

(12) سورة الحج (78) 0

(13) سورة البقرة (185) 0

(14) سورة البقرة (286) 0

(15) سورة الطلاق (2) 0

(16) سورة الطلاق (4) 0

(17) رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه وصححه العلامة الألباني ( صحيح الجامع ـ 1/420) 0

(18) رواه البخاري (  13/264 ـ فتح )ورواه مسلم (9/101 ـ نووي) عن أبي هريرة رضي الله عنه 0

(19) سورة التغابن (16) 0

(20) رواه مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه (2/21 نووي) 0

(21) رواه مسلم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه (2/27 نووي) 0

(22) سورة الأنعام (119) 0

(23) سورة المائدة (3) 0

(24) سورة الأنعام (145) 0

(25) رواه البخاري (1/285 ـ فتح ) ، ورواه مسلم (4/49 ـ نووي ) ، 0

(26) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه (4/51 ـ نووي ) 0

(27) رواه البخاري (12/355 ـ فتح ) ، ورواه مسلم (4/12ـ نووي ) ، عن أم سلمة رضي الله عنها 0

(28) مختصر إغاثة اللهفان للشيخ علي حسن (217) 0

(29) رواه النسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وصححه الألباني (صحيح سنن النسائي ـ1/31) 0

(30) سورة البقرة (275) 0

زر الذهاب إلى الأعلى