حديث

شرح كتاب الإيمان

 شرح كتاب الإيمان

من مختصر صحيح مسلم

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

 

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له

وأشهد أن لاإله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله .

أما بعد : فانّ أصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .

أما يعد : فهذا شرح لكتاب الأيمان من  مختصر الإمام المنذري لصحيح الإمام مسلم (1) رجونا به النفع للعام والخاص استخلصناه من شروح أهل العلم ، كالإمام النووي والحافظ بن حجر وغيرهما .

ومعرفة المسلم _ لاسيما طالب العلم _ بمعاني أحاديث هذا الكتاب ، تقيه ـ بعون الله تعالى ـ من الزلل الذي وقعت فيه فرق كثيرة ، خالفت الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة فيما اعتقدت وأصَّلت ، فضلَّت وأضلت ، وما ذاك إلا لجهلها بما جاء عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام في هذه الأبواب العقدية .

والجهل بنصوص الشرع وأحكام الدين من أعظم أسباب الضلال والإضلال ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً  ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناسُ رؤوساً جُهَّالا ، فسئُلوا فأفتوا بغير علم ،فضلوا وأضلوا )) (2)

فمن أطفأ مصباحُ العلم عنده ، تخبَّط في ظلمات الجهل .

ثم اتباع النفس هواها ، بمخالفة مولاها، وقد جمع الله تعالى بينهما_ بين الجهل واتباع الهوى _ في قوله سبحانه (( إن يتبعون ألا الظن وما تهوى الأنفس )) [ النجم : 23 ]  وقد نزه الله تعالى رسوله المصطفى ونبيه المجتبى عنهما ، فقال مقسماً  (( والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى* وما ينطق عن الهوى )) [ النجم : 1 ـ 3 ] .

وقد أخبر تعالى أن الهوى كان سبباً  لهلاك الأمة الغضبية ، فقال (( كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون ) [ المائدة : 70] فعصوا ربهم بتكذيب رسلهم بل بقتلهم !! لأتباعهم أهوائهم .

نعود فنؤكد : أنه بالعلم النافع ، والإتباع الصادق ، تكون النجاة في الدنيا والآخرة ، واللحاق بركب الرعيل الأول ، رضي الله عنهم ورحمهم الله تعالى .

فعن عاصم قال : قال أبو العالية رحمه الله تعالى :

تعلموا الإسلام ، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه ، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام ، ولا تحرفوا الإسلام يمينا ولا شمالاً وعليكم بسنة نبيكم ، والذي عليه أصحابه وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء ،

قال : فحدثت الحسن ، فقال : صدق ونصح .

وبغير هذا المنهاج تنحرف الأمة عن الجادة القويمة ، وتفقد اليقظة الإسلامية ما ترنو إليه من عز ونصر وفخار ورفعة .

فاللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه ، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل ، واحينا على الإسلام والسنة وأمتنا عليهما ، برحمتك ياأرحم الراحمين …

و سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، أشهد أن لاإله إلاأنت   استغفرك وأتوب إليك .

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .

وكتبه / محمد الحمود النجدي

***************************************************************************************

تمهيد

قبل أن نبدأ بشرح أحاديث الكتاب ، نقدَّم بين يدي ذلك ترجمة للأمام مسلم ، نتبعها بترجمة لمختصر الإمام مسلم .

 

                       ** ترجمة الإمام مسلم **

هو الإمام الكبير الحافظ الحجة : أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري ( من بني قشير قبيلة من العرب معروفة )  النيسابوري ، صاحب الصحيح قيل : إنه ولد سنة أربع ومائتين .

وأول سماعه للحديث في سنة ثمان عشرة من يحيى بن يحيى التميمي ، وحج في سنة عشرين وهو أمرد ، فسمع بمكة القعنبي ، فهو أكبر شيخ له ، وسمع بالكوفة من أحمد  بن يونس وجماعه ، وأسرع إلى  وطنه ثم أرتحل بعد أعوام قبل الثلاثين ، وأكثر عن علي بن الجعد ، لكنه ماروى عنه في الصحيح شيئا وسمع  بالعراق والحرميين ومصر (1) .

من شيوخه : أحمد بن حنبل واحمد بن منيع وإسحاق بن راهوية وسعيد بن منصور وعبد الله الدار مي وعلي بن خشرم وعثمان بن أبي شيبة وقتيبة بن سعيد ومحمد بن يحيى العدني وأبي بكر بن أبي شيبة وغيرهم وعدتهم : مئتان عشرون رجلاً ، أخرج عنهم في الصحيح ، ومن أعظم شيوخه البخاري.

قال : الدار قطني : لولا البخاري ماراح مسلم ولا جاء .

الراوون عنه : أبو عيسى الترمذي  في جامعه   وصالح جزرة وعبدالرحمن ابن أبي حاتم وأبو بكر بن خزيمة وأبو العباس السرَّاج ويحيى بن محمد بن صاعد والحافظ أبو عوانة وغيرهم .

ـ أقوال العلماء فيه  ـ
قال عبدالرحمن بن أبي حاتم : كان مسلم ثقة من الحفاظ ، كتبت عنه بالري وسئل أبي عنه ، فقال : صدوق .

قال أبو قريش الحافظ : سمعت محمد بن بشار يقول : حفاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري ، ومسلم بنيسابور ، وعبد الله الدارمي بسمرقند ، ومحمد بن إسماعيل ببخارى .

قال أبو عبدالله محمد بن يعقوب بن الأخرم الحافظ : إنما أخرجت نيسابور ثلاثة رجال : محمد بن يحيى ، ومسلم بن الحجاج ، وإبراهيم بن أبي طالب .

وقال الحاكم : سمعت أبا الفضل محمد بن إبراهيم سمعت أحمد بن سلمة يقول : رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح ، على  مشايخ عصرهما .

وقال : الحاكم : سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول : رأيت شيخا حسن الوجه والثياب ، عليه رداء حسن  ، وعمامة قد أرخاها بين كتفيه ، فقيل : هذا مسلم . فتقدم أصحاب السلطان ، فقالوا قد أمر أمير  المؤمنين أن يكون مسلم بن الحجاج إمام المسلمين ، فقدموه في الجامع ، فكبر وصلى بالناس .

·       تاليف الصحيح ، وأقوال العلماء فيه *

قال أحمد بن سلمة : كنت مع مسلم في تاليف صحيحه خمس عشرة سنة . قال : وهوإثنا عشر ألف حديث . قال الذهبي : يعني بالمكرر .

وقال الحافظ  ابن مندة رحمه الله : سمعت أباعلي النيسابوري الحافظ يقول : ماتحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم . (1)

وقال الحافظ بن كثير رحمه الله : صاحب ـ الصحيح ـ الذي هو تلو صحيح البخاري عند أكثر العلماء ، وذهبت المغاربة وأبو علي النيسابوري من المشارقة إلى  تفضيل صحيح مسلم على صحيح البخاري . فإن أرادوا تقديمه عليه في كونه ليس فيه شئ من التعليقات إلا القليل ، وإنه يسوق الأحاديث بتمامها في موضع واحد ولا يقطعها كتقطيع البخاري لها في الأبواب ، فهذا القدر لا يوازي قوة أسانيد البخاري واختياره في الصحيح لها ما أورده في جامعه معاصرة الراوي لشيخه وسماعه منه (2) .

وقال النووي رحمه الله : اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز : الصحيحان  : البخاري ومسلم ،  وتلقتهما الأمة بالقبول ، وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ، ظاهره وغامضة ، وقد صح أن  مسلماً كان ممن يستفيد من البخاري ،  ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث .

وهذا الذي ذكرناه من ترجيح كتاب البخاري ، هو المذهب المختار الذي قاله الجماهير ، وأهل الإتقان ، والحذق والغوص على أسرار الحديث (1) .

مصنفات الإمام مسلم الأخرى :

أكثر الإمام مسلم من التأليف ، وهذه بعض تأليفاته المطبوعة :

1 ـ  الأسامي والكنى ، 2 ـ التمييز ، 3 ـ الجامع ، 4 ـ الطبقات ،

5 ـ المنفردات والوحدان ، 6 ـ رجال عروة بن الزبير وجماعة من التابعين وغيرهم (2) .

وفاته وسببها :

قال أحمد بن سلمة : وعقد لمسلم مجلس للمذاكرة ، فذُكر له حديث لم يعرفه  فانصرف إلى منزله وأوقد السَّراج ، وقال لمن في الدار : لا يدخل أحد منكم ، فقيل له : أهديث لنا سله من تمر ، فقال : قدموها فقدموها إليه ، فكان يطلب الحديث ويأخذ تمرةً ، فأصبح وقد فني التمر ، ووجد الحديث .

قال الذهبي : رواها أبو عبد الله الحاكم  ثم قال : زادني الثقة من أصحابنا : أنه  منها مات (3) .

وكان ذلك في شهر رجب سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور عن بضع وخمسين سنة .

فرحمه الله تعالى رحمه واسعة ، وجعل الفردوس الأعلى مثواه آمين .

·       ترجمة الحافظ المنذري *

·       مختصر الصحيح *

هو الإمام العلامة الحافظ زكي الدين أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي بن عبدالله بن سلامة المنذري الشامي الأصل ، المصري الشافعي .

مولده : ولد في غرة شعبان سنة إحدى وثمانين وخمس مئة .

طلبه للعلم : قرأ القرآن ، وتأدب ،  وتفقه  ، ثم طلب علم الحديث وبرع فيه .

شيوخه :

سمع من أبي عبد الله محمد بن حمد الأرتاحي وهو أول شيخ لقيه ، وذلك في سنة إحدى وتسعين ، ومن عمر بن طبرزذ ،  وهو أعلى شيخ له ومن يونس بن يحيى الهاشمي لقيه بمكة  ، وجعفر بن محمد بن آموسان ،  أملى عليه بالمدينة ، وعلى بن المفضل الحافظ ، ولازمه مدة وبه تخرج والإمام موفق الدين ابن قدامه ،  وخلق كثير لقيهم بالحرمين ومصر والشام والجزيرة (1) .

تلاميذة :

حدث عنه جماعة منهم الحافظ الدمياطي ، وقد تخرج به والعلامة تقي الدين ابن دقيق العيد ، واليونيني أبو الحسين وإسماعيل بن عساكر والشريف عز الدين .

أقوال أهل العلم فيه :

قال الشريف عز الدين الحافظ :

كان شيخنا زكي الدين عديم النظير في علم الحديث على اختلاف فنونه ، عالماً بصحيحه وسقيمه ومعلولة وطرقه ، متبحرا في معرفة أحكامه ومعانيه ومشكلة  قيماً بمعرفة غريبة وإعرابه واختلاف ألفاظه ، ماهراً في معرفة رواته ووفياتهم ومواليدهم وأخبارهم ، إماماً حجة ثبتاً ورعاً ، متجرداً فيما يقوله ، متثبتاً فيما يرويه )) (2)  .

وقال الذهبي ( لم يكن في زمانه أحفظ منه )

وقال الدمياطي : هو شيخي ومخرجي ، أتيته مبتدئاً ، وفارقته معيداً له في الحديث (1) .

·       وظائفه *

قال الحافظ عز الدين الحسيني : درس شيخنا بالجامع الظافري ، ثم وَليَ مشيخة الدار الكاملية ، وانقطع بها عاكفاً على العلم .

·       من أخباره *

أنه أفتى في  الديار المصرية ، ثم إنقطع عن الإفتاء . ولإنقطاعه هذا سبب طريف ينبئ عن إنصافه وسماحة نفسه وعرفانه الفضل لذويه . وقد أشار إلى ذلك التاج السبكي قائلاً : سمعت أبي ( أي التقي السبكي ) يحكي أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام كان يُسمع الحديث قليلاً بدمشق  ، فلما دخل القاهره بطل ذلك وصار يحضر مجلس الشيخ زكي الدين ـ أي المنذري ـ ويسمع عليه في جمله من يسمع ، ولا يسمع . وإن الشيخ زكي الدين أيضاً ترك الفتيا ، وقال : حيث دخل الشيخ عز الدين لاحاجة بالناس إلي (2) .

أشهر مؤلفاته (3) :

1 ـ الترغيب والترهيب (4) .

2 ـ مختصر صحيح مسلم (5)

3 ـ مختصر سنن أبي داود .

4 ـ شرح التنبيه لأبي إسحاق الشيرازي في الفقه الشافعي .

5 ـ أربعون حديثاً في فضل اصطناع المعروف .

6_ الاربعون في الأحكام .

7ـ الإعلام بأخبار شيخ البخاري محمد بن سلام .

8 ـ معجم شيوخه .

9 ـ عمل اليوم والليلة .

وفاته :

توفي في أربع ذي القعدة  سنة ستة وخمسين وستمائة  .

ورثاه غيرُ واحد بقصائد حسنة .

——————————————————————————–

(1)  وقد يسر الله تعالى شرحه عبر دروسً في مسجد موضي الرشيدي بضاحية صباح الناصر ، فلله الحمد والمنة

*****************************************************************************************

شرح كتاب الإيمان
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الرحيم الغفار ، الكريم القهار ، مقلب القلوب والأبصار ، عالم الجهر والإسرار ، أحمده حمداً دائماًَ بالعشي والإبكار . وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له شهادة تنجي قائلها من عذاب النار ، وأشهد أن محمدأ نبيه المختار ، ورسوله المجتبى من أشرف نجار ، صلى الله عليه وعلى أهله وأزواجه وأصحابه الجدراء بالتعظيم والإكبار ، صلاة دائمة باقية بقاء الليل والنهار .

وبعد ، فهذا كتاب اختصرته من (( صحيح )) الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري رضي الله عنه اختصاراً يسهله على حافظيه ، ويقر به للناظر فيه ، ورتبته ترتيباً يسرع بالطالب إلى وجود مطلبه في مظنته وقد تضمن مع صغر حجمه جل مقصود الأصل .

وإلى الله سبحانه أرغي في أن ينفعني به وقارئه وكاتبه والناظر فيه ، إنه قريب مجيب

الشرح :

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه .

فهذا مختصر صحيح الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري وهو في الدرجة بعد صحيح  الإمام البخاري أبي عبدالله على القول الصحيح المشهور عند علماء الأصول والحديث ، وقد اختصره الإمام زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري في مجلد واحد كبير قال : اختصاراً يًسهله على حافظيه ، ويقربه للناظر فيه ، ورتبه ترتيباً يسرع بالطالب إلى وجود مطلبه في مظنته ، وهذا يدل على أنه تصرف في تغيير بعض الأحاديث ووضعها في أبواب قد تتقدم وقد تتأخر، تسهيلاً لطلبة العلم ، وأخبر أنه قد تضمن جل مقصود الأصل .

وقوله : (( وأشهد أن محمداً نبيه المختار ، ورسوله المجتبى من أشرف نجار )) النجار : بكسر النون : هو الأصل والحسب ، فالرسول صلى الله عليه وسلم خيار من خيار من خيار ، كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث مسلم وغيره : (( إنّ الله اصطفى من وَلَدِ إسماعيل كنانة ، واصطفى من كنانة قريشاً ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم )) فهو عليه الصلاة والسلام خيار من خيار من خيار .

* كتاب الإيمان *
ابتدأ الإمام مسلم كتابه بالإيمان ، والإمام البخاري رحمه الله ابتدأ كتابه ببدء الوحي ثم الإيمان .

باب : أول الإيمان قول لاإله إلاالله
لا بد أن نعلم : ـ

أنّ الإمام مسلم رحمه الله لم يضع أبوابأً لكتابه الصحيح ، وإنما الذي وضع التبويب هو الإمام النووي ، فالتبويب الذي يوجد الآن في صحيح الإمام مسلم ، ليس من صنع مسلم ، وإنما هو من صنع الإمام النووي .

باب : أول الإيمان قول : لاإله إلاالله : فهي أول كلمة الإيمان ، وأول ما يدخل به العبد إلى الإسلام ، وقوله : أول الإيمان : لأن الإيمان يراد به الإسلام إذا جاء مفرداً عن الإسلام ، لأن لفظتي الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا في المعنى ، وإن افترقا اجتمعا في المعنى ، فيمكن أن تعبر عن الإسلام بالإيمان ، وعن الإيمان بالإسلام

ـ الحديث الأول :

1 ـ عن أبي جمرة قال : كنتُ أترجمُ بين يدي عبدالله بن عباس وبين الناس ، فأتته امرأة تسألة عن نبيذ الجر فقال :  إن وفد عبد القيس أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((  من الوفدُ ؟ أو من القوم ؟ )) قالوا : ربيعة ، قال : (( مرحباً بالقوم أو بالوفد غير خزايا ولا ندامى )) فقالوا : يا رسول الله ، إنا نأتيك من شُقة بعيدة وإن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مُضر ، وإنا لا نستطيعُ أن نأتيك إلا في شهر الحرام ، فمُرنا بأمر فصل نُخبر به من وراءنا ، وندخل به الجنة ، قال : فأمرهم بأربع ، ونهاهم عن أربع ، قال : أمرهم بالإيمان بالله وحده ، وقال : (( هل تدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ )) قالوا : اللهُ ورسوله أعلمُ ، قال : (( شهادةُ أن لاإله إلااللهُ ، وأن محمداً رسولُ الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاءُ الزكاة ، وصوم رمضان ، وأن تؤدوا خمساً من المغنم )) ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت ( قال شعبةُ وربما قال : النقير ) وقال : (( احفظوه وأخبروا من ورائكم ))  .

وزاد ابن مُعاذ في حديثه عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، للأشج أشج عبد القيس : ((  إن فيك لخصلتين يحبهما الله : الحلم والأناة )) .

شرح الحديث الأول :

قوله ( عن أبي جمرة قال : كنت أترجم بين يدي عبدالله بن عباس وبين الناس ) الترجمة : هي النقل من لغة إلى لغة ، فقيل : إنه كان يترجم عن الفارسية ، وقيل : معنى قوله : أترجم أنه كان يرفع صوته ليسمع الناس ، لكثرتهم على ابن عباس ، فكان يوصل كلامه إلى الناس .

( فأتته امرأة تسألة عن نبيذ الجر ) استدل به على جواز أن يَسمع الرجل الأجنبي صوت المرأة ، وأن تَسمع المرأة صوت الرجل الأجنبي للحاجة ، كاستفتاء وبيع وشراء ونحو ذلك ، والجر هو مايعرف بالجرار واحدتها جره ، والنبيذ : ماينبذ في الماء من البُسر والتمر وغيره ، فكانت العرب تنبذ التمر في الماء لإصلاح طعم الماء ، لأن الماء أحياناً يكون فيه ملوحة ، فيضعون فيه شيء من التمر لأجل الحلاوة ، ولأنه شراب شهير عندهم ، فيضعونه في الجرّ .

فلما سألته قال ابن عباس ( إنّ وفد َ عبد القيس أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من الوفد ؟ أومن القوم ؟ قالوا ربيعة ) يعني : إنا من قبيلة ربيعة .

( قال مرحبا بالقوم أوبا لوفد غير خزايا ولا ندامى ) خزايا جمع خزيان ، وهو من الخزي ، إما يراد به هنا خزيان بمعنى الخجل ، وإما أن يراد به : الذُل ، فقال لهم : مرحباً بكم واتركوا عنكم الحياء ، أو أنكم لا ذُلّ عليكم ، وندامى : جمع ندمان ، وهو في اللغة الأصح أن يقول : نادمين ، لكن قال : ندامى ، لتكون موافقة لقول : خزايا ، فتكون أجمل في المنطق .

قوله ( فقالوا : يارسول الله إنا نأتيك من شقة بعيدة ) الشُقة يعني السفر البعيد ، يصح فيه ضم الشين وكسرها ، لكن لغة القرآن بالضم ، وسميت شقة لأنه يشق على الإنسان قطع المسافة فيها.

قوله ( وإن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مُضر ) يعني من قبيلة مضر ، كانوا بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا كفاراً ويخشون من بأسهم وحربهم .

قوله ( وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر الحرام ) وهذا يدل على أن الجاهلية كانت تحرم القتال في الشهر الحرام ، لكن كانوا كما أخبر الله عزوجل عنهم يتلاعبون بالتحريم ، فيقدمون شهر الحرام إلى صفر ، لأجل أن يستبيحوا القتال في الشهر الحرام ، وربما يتقدم في السنة التي بعدها من صفر إلى ربيع الأول ، والتي بعدها إلى ربيع الثاني الى جمادى وهكذا ،  فيتلاعبون بالأشهر ، حتى تدور السنين و يرجع مرة أخرى إلى شهر الله الحرام .

قوله ( فمرنا بأمر فصل نخبر به من ورائنا ، وندخل به الجنة ) طلبوا منه أن يعلمهم الإيمان والإسلام ليخبروا به قومهم ، وقالوا : فصل يعني : أمر عظيم يفصل بين الحق والباطل ، وبين الخير والشر ، والله عزوجل وصف قوله بأنه فصل (( إنه لقول ، وما هو بالهزل ))        [ سورة الطارق : 13- 14]  فكتاب الله فصل ، يفصل بين الحق والباطل ، وبين الخير والشر ، والهدى والضلال .

قوله ( قال : فأمرهم بأربع ، ونهاهم عن أربع ، قال : أمرهم بالإيمان بالله وحده ) قال : ( آمركم بالإيمان بالله وحده ) ثم شرح لهم وبين : ما الأيمان بالله وحده ؟

قوله ( قال : هل تدرون ما الأيمان بالله وحده ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ) وهذا من أدب الصحابة ، أنهم كانوا لا يتقدمون بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ولو كانوا يعلمون الجواب ، لأنهم يطمعون أن يحصلوا على زيادة فائدة من النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا يتكلمون بين يديه ، ولهذا قالوا : يستحب للطالب أن يكثر السكوت بين يدي شيخه ، ليفوز بكلامه وبفوائده ، وبعض الناس إذا جاء يسأل ، تجده يسأل ويجاوب على نفسه ، أو يكثر كلامه جداً فلا يفوز من الشيخ ولا من الجواب إلا بأقل الكلمات ، ويصير الكلام كله له ، فهذا يحرم الخير والفائدة .

ثم قال مفسراً الإيمان بالله وحده :

( شهادة أن لاإله إلاالله ، وأن محمداً رسول الله ) فبين لهم بأن الأيمان بالله وحده أوله الشهادتين : لاإله إلا الله ، ومعناها لا معبود إلا الله ، ( وأن محمداً رسول الله) معناها : الشهادة له بأنه رسول الله تعالى حقاً وصدقاً ، وذلك يكون بتصديقه والإيمان به ، وتصديق ما أخبر به ، وأتباعه ، وترك زواجره ونواهيه ، وأن لا تعبد الله عزوجل إلا بما شرع .

( وإقام الصلاة ) معناه : إدامة الصلاة والاستمرار عليها ، كما قال الله عزوجل (( الذين هم على صلاتهم دائمون ) [ سورة المعارج 23 ] وقيل : إقام الصلاة معناه : الإتيان بها تامة غير منقوصة ، إذ أنه لم يقل : أن تصلوا ، وإنما قال : أقام الصلاة ، فمن أقام الصلاة كما أمره الله عزوجل ، فقد أتى بالواجب ، أما مَن صلى ولم يقم بأركان صلاته فما استقامت صلاته ،  بل هذا مقصر ، وقد يستحق التعذيب إذا قصر في الخشوع الواجب ولم يتم الركوع والسجود ، كما في الحديث : أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته قالوا : وكيف يسرق من صلاته ؟ قال : لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها رواه أحمد عن أبي قتادة وأبي سعيد رضي الله عنهما

( وإيتاء الزكاة ) يعني دفع الزكاة الواجبة .

( وصوم رمضان ) الشهر الذي اختاره الله تعالى للصيام .

( وان تؤدوا خمساً من المغنم ) لأن الله تعالى قد افترض على المسلمين أن يخرجوا خمساً لله وللرسول  من المغانم ، قال الله عزوجل (( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأنَّ لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين )) [ سورة الأنفال : 41 ] إذاً الخمس لهذا المصرف وأربع أخماس للمقاتلين المجاهدين .

( ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير ) الدُباء : هو القرع اليابس ، يتركون القرع حتى ييبس ويتخذونه مثل الجرة ، والحنتم : وهي جرار خضر معروفة ، والمزفت : جرار تطوى في الزفت ، وهو القار ، وكان معروفاً عند العرب ، لأن القار ينبع على وجه الأرض مثل العين ، فكانوا يستفيدون منه ، والنقير : هو جذع نخلة أو غيرها ، ينقر في الوسط ويتخذ كالجرة ، وإنما نهاهم عن الانتباذ في هذه الآنية ، لأنها آنية محكمة لايدخلها الهواء ، فيسرع التخمر إلى النبيذ ، فمنعهم من أن ينتبذوا في هذه الآنية ، وأذن لهم في الإنتباذ في القرب ، وقالوا له _ كما في رواية أخرى في مسلم _ إن أرضنا كثيرة الجرذان ، فقال عليه الصلاة والسلام : وإن أكلتها الجرذان ، وإن أكلتها الجرذان وإن أكلتها الجرذان .

وشدد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ، لأن شرب الخمر كان شهيراً عند العرب ، والتخمر يحصل سريعاً في هذه الآنية ، فمنعهم منه ثم بعد ذلك نسخ هذا الأمر ، وقال عليه الصلاة والسلام ( إن الأوعية لا تحرم شيئاً ، فانتبذوا فيما بدا  لكم ، واجتنبوا كل  مُسكر )  رواه الطبراني وأصله في صحيح مسلم (3/1584) .

فنهاهم عن المسكر ، وربط التحريم بعلته ، وهو الإسكار .

وقوله ( احفظوه واخبروا من وراءكم ) يعني : من قومك ومن الناس . وهذا حث على تبليغ العلم .

قوله : وفي رواية ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : للأشج أشج عبد القيس ) قال النووي : المشهور أن اسمه : المنذر بن عائذ ، وقيل: المنذر بن الحارث ، وقيل : المنذر بن عامر ، لكن المشهور أنّ اسمه : المنذر بن عائذ .

قوله( إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة ) وفي رواية ( يحبهما الله ورسوله ) الحلم : هو العقل كما قال عزوجل (( أم تَأمُرُهم أحلامهم بهذا ) [الطور :32] فيراد بالحلم هنا العقل ، وقيل الحلم : هو الكف عن الجاهلين ، وعدم معاجلة الجاهل بالعقوبة ، بل الصبر عليه ، والأناة : هو ترك التعجل ، يعني ترك الاستعجال ، وهذا يحبه الله تعالى أيضاً ، السبب في هذا : أن وفد عبد القيس لما جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم تخلف الأشج في الرحال ، فعقل الإبل كلها ، ثم أغتسل وتطيب ولبس أحسن ثيابه ، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، يعني تهيأ ولم يستعجل ، وهذا يدل على عقله ، لأن كون الإنسان يعقل الإبل ، يدل على أنه يفكر بالعواقب ولا يستعجل ، وكونه يتأنى في أن يتهيأ للقدوم على النبي صلى الله عليه وسلم ، يدل هذا أيضاً على أناته وعدم استعجاله ، فالحلم والأناة خصلتان يحبهما الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، نسأل الله تعالى التخلق بما يحب ويرضى .

***************

زر الذهاب إلى الأعلى