عقيدة

مختصرالنهج الأسمى

أسماء الله الحسنى -2-

براءة أهل السنة من الإلحاد في أسمائه:

و برأ الله أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم وورثته القائمين بسنته عن ذلك كله فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه ، ولم يجحدوا صفاته ، ولم يشبهوها بصفات خلقه ،ولم يعدلوا بها عما أنزلت عليه لفظا ولا معنى ، بل أثبتوا له الأسماء والصفات ونفوا عنه مشابهة المخلوقات ، فكان إثباتهم بريا من التشبيه ، وتنزيهم  خلياً من التعطيل(17).

و قال في النونية:

أسـماؤه أوصافُ مدحٍ كلها             مُشتقةٌ قد حَمَلتْ لمعانِ

إيـاك والإلـحادَ فـيها إنه              كُفْرٌ معاذ الله من كفرانِ

وحقيقة الإلحاد فيها الميلُ بالْ               إشراك والتعطيل والنكرانِ

تنبيهات و فوائد جلية:

التنبيه الأول: ما يوصف به الرب سبحانه أو يخبر به عنه أقسام:

أ – ما يرجع إلى نفس الذات، كقولك: ذات و موجود و شيء.

ب – ما يرجع إلى صفات معنوية كالعليم و القدير و السميع و البصير (و تُسمى صفات ذاتية).

جـ – ما يرجع إلى أفعاله كالخالق و الرازق (و تسمى صفات فعلية).

د – ما يرجع إلى التنزيه المحض و لا بد من تضمنه ثبوتاً إذ لا كمال في العدم المحض، كالقدوس و السلام.

هـ – ما دل على جملة أوصاف عديدة، لا تختص بصفة معينة، بل هو دال على معان، نحو المجيد، العظيم، الصمد، فإن المجيد من اتصف بصفات متعددة من صفات الكمال ولفظه يدل على هذا، فإنه موضوع للسعة و الكثرة و الزيادة، و منه  ] ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيد[ ، لسعة العرش و عظمته، و العظيم من اتصف بصفات كثيرة من صفات الكمال و كذلك الصمد.

و – صفة تحصل من اقتران أحد الاسمين والوصفين بالآخر ، وذلك قدر زائد على مفرديهما ، نحو الغني الحميد ، العفو القدير ، والحميد المجيد ، ونحو ذلك ، فإن الغنى من صفات الكمال والحمد كذلك ،واجتماع الغنى مع الحمد كمال آخر ، فله ثناء من غناه ، وثناء من حمده وثناء من اجتمتعهما ، و كذلك نظائرهما(18) .

التنبيه الثاني: يجب أن يعلم أن ما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه و صفاته،كالشيء و الموجود و القائم بنفسه و الشارع، فإنَّ هذا يخبر به عنه و لا يدخل في أسمائه الحسنى و صفاته العلى.

التنبيه الثالث: أن أسماء الله توقيفية:

و هذا هو مذهب الجمهور من أهل السنة و الجماعة، أن أسماء الله توقيفية، لا يجوز تسميته بما لم يرد به السمع.

و ذلك أن أسماء الله تعالى و صفاته من الأمور الغيبية، التي لا يمكن لنا أن نعرفها إلا عن طريق الرسل، الذين يُطلعهم الله على ما يشاء من الغيب، ثم هم يبلغونه للناس، ولا يجوز القياس فيها أو الاجتهاد، لأن هذا الباب ليس من أبواب الاجتهاد.

فالمنهج الصحيح لمعرفة توحيد الله عز وجل و أسمائه و صفاته، هو الاعتماد على (الوحي) الذي أوحاه الله سبحانه و تعالى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، و أمره باتباعه، قال تعالى: ]فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ[  (محمد: 19).

و قال: ] اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [ (الأنعام: 106).

و قال: ] وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِ لاَّ نُوحِي إِلَيْه ِأَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [ (الأنبياء: 25)(19) .

و أمرنا نحن باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم  و ما جاء به من الوحي الشريف:

و قال: ] اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ  وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ[ (الأعراف:3).

و قال سبحانه: ]قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ  [ (الأعراف: 158) و غيرها من الآيات الكثيرة.

و لو كان العقل قادراً على معرفة أسماء الله و صفاته، و ما يجوز أن يوصف به ممالا يجوز، لما احتاج الناس إلى الوحي، و لأصبح إرسال الرسل إلى الناس من العبث، تعالى الله و تقدس عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

و تسمية الله سبحانه بما لم يرد به الدليل يدخل في الإلحاد في أسمائه الحسنى و قد يقع صاحبه في التشبيه لأن المشبهة وصفوا الله بما لم يأذن به.

و أما المعتزلة و الكرامية فقالوا: إن اللفظ إذا دل العقل على أن المعنى ثابت في حق الله سبحانه، جاز إطلاق ذلك اللفظ على الله تعالى، سواء ورد التوقيف به أو لم يرد !! (20).

التنبيه الرابع: لا يجوز أن يشتق له أسماء من الأفعال التي وردت في الكتاب والسنة مقيدة ، كما غلط فيه بعض المتأخرين ، فجعل المضل ، الفاتن ، الماكر ، المستهزئ من أسمائه الحسنى ، فإن هذه الأسماء لم يأت السمع بإثباتها ، وإنما وردت كأفعال مخصوصة ومعينة ، فلا يجوز اشتقاق أسماء منها على  وجه الإطلاق (21).

التنبيه الخامس: يجوز أنْ يشتق من الأسماء الحسنى الفعل و المصدر، فيخبر عنه به فعلاً و مصدراً، نحو السميع البصير القدير، يطلق عليه منه: السمع و البصر والقدرة، ويخبر عنه بالأفعال من ذلك،نحو] قَدْ سَمِعَ اللهُ[ ، ]فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ[ ، ]أَبْصِرْ بِهِ وَأََسْمِعْ[ هذا إن كان الفعل متعدياً.

فإن كان لازماً لم يخبر عنه به، نحو «الحي»، بل يطلق عليه الاسم و المصدر دون الفعل، فلا يقال: حيِيَ (22).

التنبيه السادس: قال ابن القيم: إن أفعال الرب تبارك و تعالى صادرة عن أسمائه وصفاته، و أسماء المخلوقين صادرة عن أفعالهم، فالرب تبارك و تعالى فعاله عن كماله.

و المخلوق كماله عن فعاله فاشتقت له الأسماء بعد أن كمل بالفعل.

فالرب لم يزل كاملاً فحصلت أفعاله عن كماله، لأنه كامل بذاته و صفاته، فأفعاله صادرة عن كماله، كمل ففعل، و المخلوق فعل فكمل الكمال اللائق به . اهـ(23).

التنبيه السابع: أن الاسم من أسمائه الحسنى له دلالات ثلاثة:

1- دلالة مطابقة: إذا فسرنا الاسم بجميع مدلوله.

2- دلالة تضمن: إذا فسرناه ببعض مدلوله.

3- دلالة التزام: إذا استدللنا به على غيره من الأسماء التي يتوقف عليها هذا الاسم.

و مثال ذلك «الرحمن» دلالة على الرحمة و الذات دلالة مطابقة، و على أحدهما دلالة تضمن لأنها داخلة في الضمن، و دلالة على الأسماء التي لا توجد الرحمة إلا بثبوتها كالحياة و العلم و القدرة و نحوها دلالة التزام(24).

التنبيه الثامن: إن أسماء الله سبحانه و تعالى كلها من قبيل المحكم، و ليست من المتشابه كما يقول بعض المفوضة المبتدعة، لأن معانيها معروفة في لغة العرب غير مجهولة،و إنما المجهول هو الكنه و الكيفية فقط، كما مر عليك آنفاً في أقوال أئمة السلف.

حديث «لله تسعة و تسعون اسماً»

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله تسعةٌ و تسعون اسماً مائة إلا واحدة لا يحفظها أحدٌ إلا دخل الجنة، وهو وترٌ يحب الوتر». و في رواية: «مَنْ أحْصَاهَا دخلَ الجَنَّة»(25).

و فيه مباحث:

أولاً: «لله تسعة و تسعون اسماً مائة إلا واحدة»(26) هل المراد به حصر الأسماء الحسنى في هذا العدد أو أنها أكثر من ذلك، و لكن اختصت هذه بأن من أحصاها دخل الجنة؟

فذهب جمهور العلماء إلى الثاني، و نقل النووي اتفاق العلماء عليه، و قال: ليس في الحديث حصر أسماء الله تعالى، و ليس معناه أنه ليس له اسم غير هذه التسعة والتسعين، و إنما مقصود الحديث: أنَّ هذه الأسماء مَن أحصاها دخل الجنة، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها، لا الإخبار بحصر الأسماء.

و قال أبو سليمان حمد الخطابي: إنما هو بمنزلة قولك إن لزيد ألف درهم أعدّها للصدقة، و هذا لا يدل على أنه ليس عنده من الدراهم أكثر من ألف درهم، و إنما دلالته أنَّ الذي أعده زيد من الدراهم للصدقة ألف درهم.

و الذي يدل على صحة هذا التأويل: حديث عبد الله بن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو: «… أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك …إلخ»(27) فهذا يدلك على أن لله أسماءً لم يُنزلها في كتابه، حجبها عن خلقه، و لم يظهرها لهم، اهـ(28).

و قال شيخ الإسلام ابن تيمية: و ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك و بمعافاتك من عقوبتك، و بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» (29).

فأخبر أنه صلى الله عليه وسلم لا يحصي ثناءً عليه، ولو أحصى جميع أسمائه لأحصى صفاته كلها فكان يحصي الثناء عليه، لأن صفاته إنما يعبر عنها بأسمائه(30).

و قد تكلم العلماء ـ و منهم الرازي في شرح الأسماء ـ عن سر هذا العدد المخصوص بكلام كثير، و الذي نراه أن تفويض علمه لله أقرب إلى الصواب، لأن الله لم يطلعنا على حكمة ذلك، فهو كأعداد الصلوات، والله تعالى أعلم.

ثانياً: معنى قوله: «من أحصاها» وهو يحتمل وجوهاً:

أ- أن يعدها حتى يستوفيها حفظاً و يدعو ربَّه بها، و يثني عليه بجميعها، كقوله تعالى: ]وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا[ (الجن: 28). و استدل له الخطابي بقوله صلى الله عليه وسلم  ـ كما في الرواية الأخرى ـ «من حفظها دخل الجنة»(31).

و قال النووي: قال البخاري و غيره من المحققين: معناه حفظها، وهذا هو الأظهر لثبوته نصاً في الخبر.

و قال في الأذكار: وهو قول الأكثرين(32).

و قال الأصيلي: ليس المراد بالإحصاء عدّها فقط، لأنه قد يعدها الفاجر، و إنما المراد العلم بها.

و كذا قال أبو نعيم الأصبهاني و ابن عطية(33).

ب – أن يكون المراد بالإحصاء «الإطاقة»، كقوله تعالى: ]عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ [ (المزمل: 20) أي: لن تطيقوه، و كقول النبي صلى الله عليه وسلم : « استقيموا و لن تحصوا …»(34) أي: لن تبلغوا كل الاستقامة.

فيكون المعنى: أن يطيق الأسماء الحسنى و يُحسن المراعاة لها، و أن يعمل بمقتضاها، و أن يعتبرها فيلزم نفسه بواجبها.

فإذا قال: يا رحمن يا رحيم، تذكر صفة الرحمة، و اعتقد أنها من صفات الله سبحانه، فيرجو رحمته و لا ييأس من مغفرته.

و إذا قال: «السميع البصير» علمَ أنه يراه و يسمعه، و أنه لا تخفى عليه خافية، فيخافه في سره و علنه و يراقبه في كافة أحواله.

و إذا قال: «الرزاق» اعتقد أنه المتكفل برزقه يسوقه إليه في وقته، فيثق بوعده، ويعلم أنه لا رازق له سواه ..إلخ(35).

جـ – أن يكون الإحصاء بمعنى العقل و المعرفة، فيكون معناه: أن من عرفها و عقل معانيها، و آمن بها دخل الجنة (36).

و هذه المراتب الثلاثة للسابقين و الصديقين و أصحاب اليمين اهـ(37).

د – أن يكون معنى الحديث: أن يقرأ القرآن حتى يختمه فيستوفي هذه الأسماء كلَّها في أضعاف التلاوة، فكأنه قال: من حفظ القرآن و قرأه فقد استحق دخول الجنة(38).

قلت: لكن قد يفوته بعض الأسماء الواردة بالأحاديث النبوية الزائدة على القرآن.

ثالثاً: قوله: «و هو وتر يحب الوتر».

الوتر: هو الفَرد، و معناه في صفة الله جلَّ و علا الواحد الذي لا شريك له و لا نظير له، المتفرد عن خلقه البائن منهم بذاته و صفاته فهو سبحانه وتر.

و جميع خلقه شفع خلقوا أزواجاً. قال سبحانه: ]وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا   زَوْجَيْنِ [ (الذاريات: 49).

فالمراد أن الله يحب الوتر من كل شيء و إنْ تعدد ما فيه الوتر، و لذلك أمر بالوتر في كثير من الأعمال و الطاعات، كما في الصلوات الخمس و وتر الليل و أعداد الطهارة وتكفين الميت، وفي كثير من المخلوقات كالسماوات و الأرض(39).

تنبيه: ما ورد في بعض طرق الحديث من سرد الأسماء ضعيف لا يصح، ضعفه الحفاظ كالترمذي والبوصيري والبيهقي وشيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن كثير والحافظ ابن حجر رحمهم الله وغيرهم(40).

الاسم الأعظم للرب تبارك و تعالى

و قد ورد فيه عدة أحاديث صحيحة و هي:

1- حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت لاإله إلا أنت، الأحد الصمد الذي لم يلد و لم يولد، و لم يكن له كفواً أحد. فقال: «لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى، و إذا دعى به أجاب».

و في رواية فقال: «و الذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب و إذا سئل به أعطى» (41).

2- حديث أنس رضي الله عنه قال: كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد و رجل يصلي، فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت، الحنّان المنّان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال و الإكرام، يا حيُّ يا قيّوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب و إذا سئل به أعطى» (41).

3- حديث أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اسم الله الأعظم في سور من القرآن ثلاث، في البقرة و آل عمران و طه»(42).

ويلاحظ أن الاسم الذي تكرر في هذه الأحاديث هو (الله) فقد ورد في الحديث الأول وورد في الحديث الثاني بصيغة «اللهم». و إنما كان الأصل فيه «ياالله» فلما حذفوا الياء من أول الحرف زادوا الميم في آخره ليرجع المعنى الذي في «ياالله»(43).

و قد اختار القول بأن الاسم الأعظم لله تعالى هو «الله» الطحاوي كما سبق و كذا ابن القيم فقد قال ـ بعد أن بيّن لوازم أسماء الله الحسنى ـ: فاسم «الله» دالٌ على جميع الأسماء الحسنى و الصفات العليا بالدلالات الثلاث، فإنه دالٌ على إلهيته المتضمنة لثبوت صفات الإلهية مع نفي أضدادها عنه.

و صفات الإلهية: هي صفات الكمال، المنزهة عن التشبيه و المثال و عن العيوب والنقائص، و لهذا يضيف الله تعالى سائر الأسماء الحسنى إلى هذا الاسم العظيم، كقوله تعالى: ] وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى[ (الأعراف: 180).

و يقال: «الرحمن و الرحيم و القدوس و السلام و العزيز و الحكيم» من أسماء الله ولا يقال: «الله» من أسماء الرحمن و لا من أسماء «العزيز» و نحو ذلك.

«فعلم أن اسمه «الله» مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى دالٌ عليها بالإجمال، والأسماء الحسنى تفصيل و تبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم «الله»، و اسم «الله» دالٌ على كونه مألوهاً معبوداً، تألهه الخلائق محبة و تعظيماً و خضوعاً و فزعاً إليه في الحوائج و النوائب، و ذلك مستلزم لكمال ربوبيته و رحمته، المتضمن لكمال الملك والحمد، و إلهيته و ربوبيته و رحمانيته و ملكه مستلزم لجميع صفات كماله، إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي و لا سميع و لا بصير و لاقادر و لا متكلم و لا فعال لما يريد ولا حكيم في أفعاله.

و صفات الجلال و الجمال أخص باسم «الله». و صفات الفعل و القدرة، والتفرد بالضر و النفع، و العطاء و المنع، ونفوذ المشيئة وكمال القوة و تدبير أمر الخليقة: أخص باسم «الرب».

و صفات الإحسان و الجود و البر، و الحنان و المنة، و الرأفة و اللطف أخص باسم «الرحمن» و كرر إيذاناً بثبوت الوصف و حصول أثره، و تعلقه بمتعلقاته» (44).

و قد ساق فخر الدين الرازي في كتابه «شرح أسماء الله الحسنى» حجج من قال: «إن الاسم الأْعظم هو «الله» منها:

1- إن هذا الاسم ما أطلق على غير الله تعالى، فإن العرب كانوا يسمون الأوثان آلهة إلا هذا الاسم، فإنهم ما كانوا يطلقونه على غير الله سبحانه و تعالى، و الدليل عليه قوله تعالى: ] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ[ (لقمان: 25). و قال تعالى: ] هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [ (مريم: 65). معناه: هل تعلم من اسم الله سوى الله، ولما كان هذا الاسم في الاختصاص بالله تعالى على هذا الوجه، وجب أن يكون أشرف أسماء الله سبحانه و تعالى.

2- إن هذا الاسم هو الأصل في أسماء الله سبحانه و تعالى و سائر الأسماء مضافة إليه. قال تعالى:  ] وَلِلَّهِ الأَسْمَاءَ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [ (الأعراف: 180) فأضاف سائر الأسماء إليه، و لا محالة أن الموصوف أشرف من الصفة، و لأنه يقال: الرحمن الرحيم الملك القدوس كلها من أسماء الله تعالى، و لا يقال الله اسم الرحمن الرحيم، فدل هذا على أن الاسم هو الأصل.

3- قوله تعالى: ]قُلِ ادْعُوا اللهَ أو ادْعُوا الرَّحْمَنَ [ (الإسراء: 110) خص هذين الاسمين بالذكر، و ذلك يدل على أنهما أشرف من غيرهما، ثم إن اسم «الله» أشرف من اسم «الرحمن».

و أما أولاً: فلأنه يقال قدمه في الذكر (45).

و أما ثانياً: فلأن اسم الرحمن يدل على كمال الرحمة، و لا يدل على كمال القهر والغلبة و العظمة و العزة، و أما اسم الله فإنه يدل على كل ذلك، فثبت أن اسم «الله» تعالى أشرف.

4- هذا الاسم له خاصية غير حاصلة في سائر الأسماء، وهي أن سائر الأسماء والصفات إذا دخل عليه النداء أسقط عنه الألف و اللام، و لهذا لا يجوز أن يقال:يا الرحمن يا الرحيم، بل يقال: يا رحمن يا رحيم، أما هذا الاسم فإنه يحتمل هذا المعنى فيصح أن يقال: يا الله. و ذلك أن الألف و اللام في هذا الاسم صار كالجزء الذاتي، فلا جرم لا يسقطان حالة النداء، و فيه إشارة لطيفة، و ذلك لأن الألف و اللام للتعريف فعدم سقوطهما عن هذا الاسم، يدل على أن هذه المعرفة لا تزول أبداً البتة، اهـ باختصار(46).

أصل كلمة «الله» في اللغة

قال ابن الأثير: «هو مأخوذ من إله و تقديرها فعلانية، بالضم، تقول: إله بين الإلهية و الأُلهانية، و أصله من ألِهَ يأْلهُ إذا تحيّر، يريد إذا وقع العبد في عظمة الله و جلاله، وغير ذلك من صفات الربوبية، وصرف همه إليها، أبغض الناس حتى لا يميل قلبه إلى أحد»اهـ(47).

قال أبو الهيثم: فالله أصله إله، قال الله عز وجل: ] مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ [ (المؤمنون: 91).

قال: و لا يكون إلهاً حتى يكون معبوداً، و حتى يكون لعباده خالقاً و رازقاً و مدبراً وعليه مقتدراً، فمن لم يكن كذلك فليس بإله، و إن عُبد ظلماً، بل هو مخلوق و مُتعبدٍ.

قال ابن بري: و كانت العرب في الجاهلية يدعون معبوداتهم من الأوثان و الأصنام آلهة و هي جمع إلاهة. قال الله عز وجل: ]وَ يَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ  [ و هي أصنام عبدها قوم فرعون معه، و «الله» أصله إلاه، على فعال بمعنى مفعول لأنه مألوه، أي: معبود، كقولنا: إمام فعال بمعنى مفعول لأنه مؤتم به، فلما أُدخلت عليه الألف و اللام حذفت الهمزة تخفيفاً لكثرته في الكلام (48).

و قال ابن القيم: القول الصحيح أن «الله» أصله الإله. كما هو قول سيبويه و جمهور أصحابه إلا من شذ منهم.

=============

تـنـبـيـه:

لا يشرع ذكر الله باسم الجلالة «الله» مفرداً:

و ذلك أن بعض الجهلة من المسلمين يذكر الله باسم الجلالة مفرداً، فيجعلون لهم أوراداً يرددون فيها لفظ الجلالة (الله) مرات عديدة كألف أو ألفين أو أكثر، و أحياناً

يجتمعون على ذلك في حلقات و هم جالسون، أو وهم واقفون، يتمايلون ذات اليمين وذات الشمال، و يقفزون بين الحين و الآخر، و يصاحب ذلك دقات الطبول و أصوات المزامير !! و تشتد الأصوات حتى لا تسمع إلا (هو هو هو )أو (أه أه أه) أو (حع حع حع) و يزعمون بعد هذه البدعة النكراء، و الفعلة الشعناء، أنهم يذكرون الله !!!

و من قال إنه يشرع للمسلم أن يردد هذا الاسم مفرداً؟! أو غيره من الأسماء؟! إن الأذكار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن على هذه الصورة أبداً، و لم يسن لهم ذلك في حديث قط، بل كل الأذكار الصحيحة الواردة عنه، نجد فيها أن لفظ الجلالة لا يذكر مفرداً، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : «من قال سبحان الله و بحمده في يوم مائة مرة، حطَّت عنه خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر» (49).

و قوله صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله و بحمده سبحان الله العظيم» (50).

و قوله صلى الله عليه وسلم : «أحب الكلام إلى الله أربع لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله، و الحمد لله، ولا إله إلا الله، و الله أكبر» (51).

و هكذا سائر الأذكار الواردة عنه صلى الله عليه وسلم  ، و لم يأت في حديث قط أنه ردّد هذا الاسم «الله» مفرداً.

أحب الأسماء إلى الله تعالى: عبد الله و عبد الرحمن، كما جاء في الحديث الصحيح، و كشف عن سر ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله في كلامه على «الأسماء والكنى» في كتابه المُمتع (زاد المعاد): «و لما كان الاسم مقتضياً لمسماه، و مؤثراً فيه كان أحب الأسماء إلى الله ما اقتضى أحبَّ الأوصاف إليه، كعبد الله و عبد الرحمن، وكان إضافة العبودية إلى اسم الله و اسم الرحمن، أحبَّ إليه من إضافتها إلى غيرهما، كالقاهر و القادر، فعبد الرحمن أحبُّ إليه من عبد القادر، و عبد الله أحبُّ إليه من عبد ربه، وهذا لأن التعلق الذي بين العبد و بين الله إنما هو العبوديةُ المحضة، و التعلقُ الذي بين الله وبين العبد بالرحمة المحضة، فبرحمته كان وجوده و كمالُ وجوده، و الغاية التي أوجده لأجلها: أن يتألّه له وحده محبة و خوفاً، و رجاء و إجلالاً و تعظيماً، فيكون عبداً لله، وقد عبده لما في اسم الله من معنى الإلهية التي يستحيل أن تكون لغيره. و لما غَلَبَت رحمته غضبه، و كانت الرحمةُ أحبَّ إليه من الغضب، كان عبد الرحمن أحبَّ إليه من عبد القاهر»(52) .

_________________

الـهــوامــش

(17) «بدائع الفوائد» (1/ 170).

(18) انظر بدائع الفوائد (1/ 159 ـ 161).

(19) في هذه الآية إخبار من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه بالسمع و الوحي عرف الأنبياء الذين من قبله التوحيد و صفات ربهم لا بالعقل أو بالفكر.

(20) شرح أسماء الله (ص 36) و قال الرازي بعده: وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني.

(21) انظر لوامع الأنوار (1/ 125 ـ 126)، و بدائع الفوائد (1/ 163)، و مدارج السالكين (3/ 415).

(22) انظر بدائع الفوائد (1/ 162).

(23) المصدر السابق.

(24) المصدر السابق، و انظر الأجوبة و الأسئلة الأصولية على العقيدة الواسطية  (ص 46) للشيخ عبد العزيز السلمان.

(25) أخرجه البخاري ( 2736، 6410، 7392 ومسلم 2677/5،6)

(26) فائدة : التكرار في قوله : ( تسعة وتسعون اسما مائة إلا واحدة ) هو التأكيد كقوله : ]ثَلاَثَةٌ فِي الحَجِّ وسَبعَةٌ إِذَا رَجعتُمْ تِلكَ عَشَرةُ كَامِلَةٌ [ ( البقرة : 196) . وقوله ]لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَينِ اثْنَينِ إِنَّما هُوَ إِلَهٌ وَاحِد[ ( النحل : 54 ) .

(27) إسناده صحيح ، أخرجه أحمد ( 1/391،452) وابن حبان (2372) – موارد والحاكم ( 1/509) والطبراني في الكبير (10352) عن عبد الله بن مسعود فذكره.

(28) شأن الدعاة ( ص24) واختاره الحافظ في الفتح ( 11/220) ونقله عن القرطبي صاحب ( المفهم ) ، ونقله ابن بطال عن القاضي أبي بكر الخطيب ، وكذا البيهقي في الأسماء والصفات ( ص 17-18 ).

(29) رواه مسلم ( 486) عن عائشة رضي الله عنها .

(30) درء تعارض العقل والنقل ( 3/333) .

(31) شأن الدعاة ( ص 26) .

(32) الأذكار ( ص 94 ) .

(33) الفتح ( 11/226).

(34) حديث صحيح : أخرجه الإمام أحمد ( 5/276- 277-282) وابن ماجه (277) والدارمي ( 1/168) والحاكم (1/130) والطبراني في الصغير ( 1/11) عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ) ، وله طرق أخرى ، استوفيناها في الأًصل .

(35) انظر شأن الدعاء ( ص 27، 28) ، الفتح ( 11/225-226) .

(36)  شأن الدعاء ( ص28،29) ، الفتح ( 11/225) .

(37) الفتح ( 11/225 ) .

(38) شأن الدعاء ( ص 29 ) وانظر فيما سبق أيضا تفسير الأسماء للزجاج ( ص 22-24 ) والرازي في شرح الأسماء ( ص81، 82 ) .

(39)  انظر الفتح ( 11/227 ).

(40)  راجع الكلام على أسانيد الطرق في الأصل ، إن شئت .

(41) إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (1493، 1494) و الترمذي (3542) و قال: حديث حسن غريب، و ابن ماجه: (3857) و ابن أبي شيبة في «المصنف» (9409، 17456) و ابن حبان (83 23) و الحاكم (1/ 504).

(42) صحيح لطرقه، أخرجه أحمد 3/ 158 ـ 245) و أبوداود (1495) و النسائي (3/ 52) و ابن حبان (2382) ـ زوائد، والحاكم (1/ 3ـ 5) و الطحاوي في «المشكل» (1/ 62) عن أنس رضي الله عنه.

(43) صحيح لطرقه: أخرجه ابن ماجه (3856) و الطحاوي في «مشكل الآثار» (1/ 63) و الطبراني في الكبير (7758) عن أبي أمامة به،

(44) انظر تفصيل القول فيها في «التفسير القيم» (ص 202).

(45)  «مدارج السالكين» (1/ 32 ـ 33).

(46) و أيضاً كل الناس يقدمون هذا الاسم في الذكر على سائر الأسماء، و كذا في الخطب و المواعظ.

(47) «شرح أسماء الله الحسنى» (91 ـ 96).

(48)  النهاية (1/ 62).

(49)  انظر «لسان العرب» (1/ 114 ـ 115) و كذا الأقوال السابقة.

(50)  تفسير الأسماء ص 25.

(51)  متفق عليه.

(52)  رواه مسلم.

(53) «زاد المعاد» (2/ 340).

زر الذهاب إلى الأعلى