دعـوة

مسائل في الاعتصام بالكتاب والسنة -4-

 


كلُّ ما نَزَل بالمسلمين ففيه حكمٌ لازمٌ في الكتاب أو السنة، إما تفصيلاً و إما تأصيلاً

الأدلة من الكتاب:

1- قال الله تعالى: ]الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا[ (المائدة: 3). قال ابن كثير: هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة، حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره، و لا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله و سلامه عليه، و لهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، و بعثه إلى الإنس و الجن، فلا حلالَ إلا ما أحلّه، و لا حرام إلا ما حرّمه، و لا دين إلا ما شرعه، كل شيء أخبر به فهو حق و صدق، لا كذب فيه و لا خُلف، كما قال تعالى: ( وَتَمَّتْ كَلِمتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً)أي: صدقاً في الأخبار ، و عدلاً في الأوامر و النواهي.

 فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة ، و لهذا قال تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ) أي: فارْضَوْهُ أنتم لأنفسكم فإنه الدِّين الذي أحبه الله ورضيه، وبعث به أفضل الرسل الكرام، و أنزل به أشرف كتبه (1).

وقال ابن القيم: فقد أكمل الله لنا الدِّين فيما أمرنا به من فريضة و فضيلة وندب، و كل سبب ينال به صلاح القلب و الدين، و فيما نهانا عنه من كل مكروه و محرم، و كل سبب يؤثر فساداً في القلب والدين(2).

2- و قال سبحانه و تعالى: ]مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ[ (الأنعام:38). قال القرطبي: أي في اللوح المحفوظ، فإنه أثبت فيه ما يقع من الحوادث. و قيل: أي: في القرآن، أي: ما تركنا شيئاً من أمر الدِّين إلا و قدْ دَلَّلْنَا عليه في القرآن، إما دلالة مبينة مشروحة، و إما مجملة يُتلقّى بيانها من الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو من الإجماع، أو من القياس الذي ثبت بنص الكتاب، قال الله تعالى: ]وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ[، وقال: ]وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [ وقال: ]وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا[  فأَجْمَل في هذه الآية وآية «النحل» ما لم ينص عليه مما لم يذكره. فَصَدق خبر الله بأنه ما فرّط في الكتاب من شيء إلا ذكره، إما تفصيلاً و إما تأصيلاً، و قال: ]الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ  دِينَكُمْ[ (3).

3- و قال عز وجل: ] وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ[ (النحل:89).

قال الطبري: نزّل عليك يا محمد هذا القرآن بياناً لكل ما بالناس إليه الحاجةُ من معرفة الحلال و الحرام، و الثواب و العقاب(4).

4- و قال جل و علا: ] وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً[ ( الكهف:54)

قال السعدي: يخبر تعالى عن عظمة القرآن و جلالته و عمومه ، وأنه صرّف فيه من كل شيء، أي: من كل طريق موصل إلى العلوم النافعة، و السعادة الأبدية، و كل طريق يعصم من الشر والهلاك، ففيه أمثال الحلال و الحرام، و جزاء الأعمال، و الترغيب والترهيب، والأخبار الصادقة النافعة للقلوب، اعتقاداً و طمأنينة ونوراً، و هذا مما يوجب التسليم لهذا القرآن و تلقيه بالانقياد و الطاعة، و عدم المنازعة له في أمر من الأمور، و مع ذلك كان كثير من الناس يجادلون في الحق بعد ما تبين، و يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق، و لهذا قال ] وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ   جَدَلاً [ أي: مجادلة و منازعة فيه، مع أن ذلك غير لائقٍ بهم و لا عدل منهم، و الذي أوجب له ذلك وعدم الإيمان بالله، إنما هو الظلم و العناد لا لقصور في بيانه و حجته وبرهانه(5).

5- و قال سبحانه: ] أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى  عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَ ذِكْرَى  لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [ (العنكبوت:51).

قال الطبري: و ذكر أن هذه الآية نزلت من أجل أن قوماً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  انتسخوا شيئاً من بعض كتب أهل الكتاب (6).

و قال ابن كثير:أي: أولم يكفهم آية أنا أنزلنا عليك هذا الكتاب العظيم الذي فيه خَبَرُ ما قبلهم، و نبأُ ما بعدهم، و حُكْمُ ما بينهم، وأنت رجلٌ أمي لا تقرأ و لا تكتب و لم تخالط الناس من أهل الكتاب، فجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى ببيان الصواب مما اختلفوا فيه، وبالحق الواضح المبين الجلي (7).

و قال القرطبي: و في مثل هذا قال صلى الله عليه وسلم  لعمر رضي الله عنه: «لو كان موسى ابن عمران حياً لما وسعه إلا اتباعي». و في مثله قال صلى الله عليه وسلم : «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن» أي: يستغني به عن غيره، و هذا تأويل البخاري رحمه الله في هذه الآية (8).

6- و قال تعالى: ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ [ (يونس:57).

قال ابن القيم: و كيف يشفي ما في الصدور كتابٌ لا يفي هو وما تبينه السنة بعشر معشار الشريعة؟ أم كيف يشفي ما في الصدور كتابٌ لا يستفاد منه اليقين في مسألة واحدة من مسائل معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله؟ أوعامّتُها ظواهر لفظية دلالتُها موقوفة على انتفاء عشرة أمور لا يعلم انتفاؤها، سبحانك هذا بهتان عظيم!

و يالله العجب! كيف كان الصحابة و التابعون قبل وضع هذه القوانين التي أتى الله بنيانها من القواعد، و قبل استخراج هذه الآراء والمقاييس و الأوضاع؟ هل كانوا مهتدين مكتفين بالنصوص أم كانوا على خلاف ذلك؟ حتى جاء المتأخرون فكانوا أعلم منهم و أهدى وأضبط للشريعة منهم، و أعلم بالله و أسمائه و صفاته، و ما يجب له وما يمتنع عليه منهم، فوالله لأنْ يلقى اللهَ عبدُه بكل ذنبٍ ـ ما خلا الإشراك ـ خيرٌ من أنْ يلقاه بهذا الظن الفاسد، و الاعتقاد الباطل (9).

7- ]وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [ (آل عمران:101).

من السنة:

1- عن أبي ذر رضي الله عنه قال: تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  و ما طائرٌ يقلب جناحيه في الهواء إلا و هو يذكرنا منه علماً، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما بقي شيءٌ يُقَرِّب من الجنة، و يُباعد من النار، إلا و قد بُيِّنَ لكم»(10).

2- و عن أبي هريرة و ابن عباس رضي الله عنهم قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما، كتاب الله وسنتي، و لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض» (11).

من الآثار:

1- قال الإمام مالك: مَنْ أَحْدثَ في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليها سلفها، فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  خان الرسالة، لأن الله يقول: ]الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [ فما لم يكن يومئذ ديناً، فلا يكون اليوم ديناً (12).

2-و قال الشافعي رحمه الله: كلُّ ما نزل بمسلم ففيه حكمٌ لازمٌ، أوعلى سبيل الحقِّ فيه دلالةٌ موجودة، و عليه إذا كان فيه بعينه حكمٌ: اتباعه، و إذا لم يكن فيه بعينه، طُلبَ الدلالةُ على سبيل الحق فيه بالاجتهاد، والاجتهاد القياس (13).

3- و قال ابن القيم رحمه الله تعالى: و قد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم و ما طائرٌ يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر للأمة منه علماً، و علّمهم كل شيء حتى آداب التخلّي و آداب الجماع و النوم و القيام و القعود، والأكل و الشرب، و الركوب و النزول، و السفر و الإقامة، و الصمت و الكلام، و العزلة و الخلطة، والغنى و الفقر، و الصحة و المرض، وجميع أحكام الحياة و الموت، و وصَفَ لهم العرش والكرسي، والملائكة و الجن، و النار و الجنة، و يوم القيامة و ما فيه حتى كأنه رَأْي عين، و عرّفهم معبودهم و إلههم أتم تعريف، حتى كأنهم يرونه ويشاهدونه بأوصاف كماله و نعوت جلاله، و عرّفهم الأنبياء و أممهم وما جرى لهم وما جرى عليهم معهم، حتى كأنهم كانوا بينهم، وعرّفهم من طرق الخير و الشر دقيقها و جليلها ما لم يعرفه نبيٌ لأمته قبله، و عرفهم صلى الله عليه وسلم  من أحوال الموت، و ما يكون بعده في البرزخ، و ما يحصل فيه من النعيم و العذاب للروح و البدن مالم يُعرّف به نبي غيره، و كذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم  من أدلة التوحيد و النبوة و المعاد و الرد على جميع فرق أهل الكفر و الضلال، ما ليس لمن عرفه حاجة من بعده، اللهم إلا إلى من يبلغه إياه و يبينه و يوضح منه ما خفي عليه، و كذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من مكايد الحروب و لقاء العدو و طرق النصر و الظفر، ما لو علموه وعقلوه و رعوه حق رعايته لم يقم لهم عدوٌ أبداً، و كذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من مكايد إبليس و طرقه التي يأتيهم منها، و ما يتحرزون به من كيده ومكره، و ما يدفعون به شره مالا مزيد عليه، و كذلك عرّفهم صلى الله عليه وسلم  من أحوال نفوسهم و أوصافها و دسائسها و كمائنها، مالا حاجة لهم معه إلى سواه، وكذلك عرّفهم صلى الله عليه وسلم  من أمور معايشهم ما لو علموه و عملوه لاستقامت لهم دنياهم أعظم استقامة.

و بالجملة فجاءهم بخير الدنيا و الآخرة برُمّته، ولم يحوجهم الله إلى أحدٍ سواه، فكيف يُظنُّ أنّ شريعته الكاملة التي ما طَرَقَ العالم شريعة أكمل منها، ناقصة تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها؟ أو إلى قياس أو حقيقة أو معقول خارج عنها؟ و من ظنَّ ذلك فهو كمن ظنَّ أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعده، و سبب هذا كله خفاء ما جاء به على من ظنّ ذلك و قلة نصيبه من الفهم الذي وفق الله له أصحاب نبيه الذين اكتفوا بما جاء به، و استغنوا به عما ما سواه، وفتحوا به القلوب والبلاد، و قالوا: هذا عهد نبينا إلينا و هو عهدنا إليكم.

و قد كان عمر رضي الله عنه يمنع من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  خشية أن يشتغل الناس به عن القرآن، فكيف لو رأى اشتغال الناس بآرائهم وزبد أفكارهم، و زبالة أذهانهم، عن القرآن و الحديث؟ فالله المستعان.

و قد قال الله تعالى:  ]أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [ .و قال تعالى : ]وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [ (14).

_________________

الهوامش :

1-تفسير ابن كثير (2/12).

2-الكلام على مسألة السماع (110) بواسطة بدائع التفسير (2/103).

3-الجامع لأحكام القرآن (6/420) ، وانظر تفسير الطبري وأضواء البيان (3/335) ، وتيسير الكريم الرحمن (2/184).

4-جامع البيان ، وانظر تفسير البغوي (5/38).

5-تيسير الكريم الرحمن (5/26).

6-تفسير الطبري (21/6). ثم روي بسنده عن يحيى بن جعده الخبر ، وهو مرسل ضعيف ، فيه سنيد ابن داود ، ضعيف .

7-تفسير ابن كثير (3/418)

8-الجامع لأحكام القرآن (13/354). وانظر البخاري (9/68) فضائل القرآن ، وقد حكى تفسير      يعتني بـ : يستغني عن سفيان بن عيينة . وقد ارتضى أبو عبيد هذا التفسير . وذهب آخرون إلى أن معناه : تحسين القرآن بالصوت ، وهو أظهر ، والله أعلم . انظر تفصيل القول في الفتح (9/68-72) .

9-أعلام الموقعين (4/377)

10-حديث صحيح ، رواه الطبراني في الكبير (2/1647). وقال الهيثمي في المجمع : (8/264) ورجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ وهو ثقة . وروى أحمد والبزار قول أبي ذر فقط. وصححه الألباني في الصحيحة (1803).

11-حديث صحيح ، رواه بهذا اللفظ الحاكم (1/93) . وله طرق غيرها في السنة والمسانيد.

12-الاعتصام للشاطبي (1/494)

13-الرسالة (477) بتحقيق أحمد شاكر رحمه الله .

14-أعلام الموقعين(4/375،376) ط دار الجبل .

وفيما سبق بيانه تعلم بطلان ما تنص عليه كثير من الدساتير الوضعية من أن : (( الشريعة مصدر رئيسي للتشريع )) إذ هذا يوحي أن دين الإسلام ليس فيه ما يغني عن غيره من متطلبات الحياة عقيدة وشريعة ؟!!

 

زر الذهاب إلى الأعلى