دعـوة

11 -مسائل في الاعتصام في الكتاب والسنة

المسألة الحادية عشرة

لا بد من معرفة اللغة العربية لفهم الكتاب و السنة

الأدلة من القرآن:

1- قال تعالى: ] إِنَّ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [ (يوسف:2).

قال الطبري: إنا أنزلنا هذا الكتاب المبين، قرآناً عربياً على العرب، لأن لسانهم و كلامهم عربي، فأنزلنا هذا الكتاب بلسانهم ليعقلوه و يفقهوا فيه، و ذلك قوله: ]لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[ (1).

و قال ابن كثير: و ذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات و أبينها وأوسعها، و أكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس، فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، و كان ذلك في أشرف بقاع الأرض، و ابتُدئ إنزاله في أشرف شهور السنة وهو «رمضان»، فكمل من كل الوجوه(2).

2- قال عز وجل: ] وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا [ (الرعد:37).

قال السعدي: أي: و لقد أنزلنا هذا القرآن و الكتاب حكماً عربياً، أي: محكماً متقناً ، بأوضح الألسنة، و أفصح اللغات، لئلا يقع فيه شك و اشتباه، وليوجب أن يتبع وحده، و لا يداهن فيه، و لا يتبع ما يضاده و يناقضه من أهواء الذين لا يعلمون (3).

 3- و مثلها قوله تعالى: ]قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [ (الزمر:28).

4- و قوله عز وجل: ]كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ[ (فصلت:3).

5- و قوله تعالى: ]وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنْذِرَ الذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ[ (الأحقاف:12).

6- و قوله عز وجل: ]وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [ (إبراهيم: 4).

قال الطبري: ليفهمهم ما أرسله الله به إليهم من أمره و نهيه، ليثبت حجة الله عليهم، ثم التوفيق و الخذلان بيد الله، فيخذل عن قبول ما آتاه رسوله من عنده من شاء منهم، و يوفق لقبوله من شاء(4)، وغيرها من الآيات الكريمة في هذا الباب.

 الأدلة من السنة:

1- عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله اصطفى كِنانة من ولد إسماعيل، و اصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، و اصطفاني من بني هاشم» (5).

فقريش أفضل العرب، و بنو هاشم أفضل قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل بني هاشم، فهو أفضل الخلق نفساً و نسباً، وأفصحهم لساناً(6).

2- و قال البخاري في صحيحه: كتاب فضائل القرآن: باب نزَل القرآن بلسان قريش و العَرب ]قُرْآنًا عَرَبِيًّا[ ،  ]بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ [. ثم روى بسنده عن الزهري قال: و أخبرني أنس بن مالك قال: فأمر عثمانُ زيدَ بن ثابت و سعيد بن العاص و عبد الله بن الزبير وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف، و قال لهم: إذا اختلفتم أنتم و زيدُ بن ثابت في عربيَّةٍ من عربيَّة القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، فإنَّ القرآن أُنزل بلسانهم ففعلوا» (7).

 الآثار:

1- كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أما بعد، فتفقَّهوا في السُّنَّة، و تفقهوا في العربية (8).

2- و عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يضرب ولده على اللحن(9).

3- و قال الشعبي: النحْو في العلم كالملح في الطعام، لايُستغنى عنه (10).

4- و قال أبو عمر بن عبد البر: و مما يُستعانُ به علَى فهم الحديث، ما ذكرناه من العون علَى كتاب الله عز وجل، وهو العلم بلسان العرب، و مواقع كلامها، و سعة لغتها و أشعارها،

 و مجازها و عموم لفظ مخاطبتها و خصوصه، و سائر مذاهبها لمن قدر فهو شيء لا يُستغنَى عنه، و كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى الآفاق أن يتعلموا السنة

 و الفرائض و اللحن ـ يعني النحو ـ كما يُتعلَّم القرآن، و قد تقدَّم ذكر هذا الخبر عنه فيما سلف من كتابنا(11).

5- و قال الشاطبي في معرض كلامه عن مآخذ أهل البدع بالاستدلال:

  v   و منها تخرُّصهم على الكلام في القرآن و السنة العربيين مع العرو عن علم العربية الذي يُفهم به عن الله و رسوله:

          فيفتاتون على الشريعة بما فهموا، و يدينون به، و يخالفون الراسخين في العلم، و إنما دخلوا في ذلك من جهة تحسين الظن بأنفسهم، و اعتقادهم أنهم من أهل الاجتهاد و الاستنباط،

 و ليسوا كذلك .

          كما حكي عن بعضهم: أنه سُئل عن قول الله تعالى: ]رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ [ ؟ فقال: «هو هذا الصرصر»؛ يعني: صرار الليل!!

          و في قوله سبحانه: ] وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ[  ؛ أي: «ألقينا فيها» كأنه عندهم من قول العرب: ذرته الريح، و ذلك لا يجوز؛ لأن ذرأنا مهموز، و ذرته غير مهموز (12)، و كذلك إذا كان من: أذرته الدابة عن ظهرها؛ لعدم الهمزة، و لكنه رباعي، وذرأنا ثلاثي.

          و استدل بعضهم (على) تحليل شحم الخنزير بقول الله تعالى: ]وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [ ، فاقتصر على تحريم اللحم دون غيره، فدلَّ على أنه حلال!

          و ربما سلَّم بعض العلماء ما قالوا، و زعم أن الشحم إنَّما حُرِّم بالإجماع، و الأمر أيسر من ذلك؛ فإن اللحم يطلق على الشحم و غيره حقيقة،حتى إذا خص بالذكر؛ قيل: شحم؛ كما قيل: عرق، وعصب، و جلد، و لو كان على ما قالوا، لزم أن لا يكون العرق والعصب و لا الجلد و لا المخ و لا النخاع و لا غير ذلك مما خُصَّ بالاسم محرما ً! وهو خروج عن القول بتحريم الخنزير.

          و كثيراً ما يوقع الجهل بكلام العرب في مجازٍ لا يرضى بها عاقل، أعاذنا الله من الجهل والعمل به بفضله.

           فمثل هذه الاستدلالات لا يعبأ بها، و تسقط مكالمة أهلها، ولا يعد خلاف أمثالهم، و ما استدلُّوا عليه من الأحكام الفروعية أو الأصولية؛ فهو عين البدعة، إذ هو خروج عن طريقة كلام العرب إلى اتِّباع الهوى.        

          فحقٌ ما حكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث قال: «إنما هذا القرآن كلام، فضعوه مواضعه، و لا تتَّبعوا به أهواءكم»؛ أي: فضعوه على مواضع الكلام، و لا تُخْرجوه عن ذلك؛ فإنه خروج عن طريقه المستقيم إلى اتباع الهوى.

                    و عنه أيضاً: «إنما أخاف عليكم رجلين: رجل تأوَّل القرآن على غير تأويله، و رجل ينفس المال على أخيه».

                    و عن الحسن: أنه قيل له: أرأيت الرجل يتعلَّم العربية ليقيم بها لسانه و يقيم بها منطقه؟ قال: «نعم، فليتعلَّمْها؛ فإن الرجل يقرأ بالآية، فيعياه توجيهها، فيهلك».

                    و عنه أيضاً: قال: «أهلكتهم العُجْمة، يتأولون القرآن على غير تأويله(13).

                    تنبيه: لكن لا بد أن نعلم أن السلف كانوا عُمدةً في هذا الباب، فلهم الباع الواسع في معرفة العربية و فقه أسرارها، و لهذا فمن اعتمد على العربية وحدها دون الرجوع إلى ما قاله السلف فإنه يضل و يغوى.

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

                    و قد عدلت المرجئة في هذا الأصل عن بيان الكتاب و السنة وأقوال الصحابة و التابعين لهم بإحسان، و اعتمدوا على رأيهم، و على ما تأولوه بفهمهم اللغة، و هذه طريقة أهل البدع؛ و لهذا كان الإمام أحمد يقول: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل و القياس.

                    و لهذا تجد المعتزلة و المرجئة و الرافضة و غيرهم من أهل البدع يفسرون القرآن برأيهم و معقولهم، و ما تأولوه من اللغة؛ و لهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم و الصحابة و التابعين و أئمة المسلمين؛ فلا يعتمدون لا على السنة، و لا على إجماع السلف وآثارهم؛ و إنما يعتمدون على العقل و اللغة، و تجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة و الحديث و آثار السلف، و إنما يعتمدون على كتب الأدب و كتب الكلام التي وضعها رؤوسهم، و هذه طريقة الملاحدة أيضاً؛ إنما يأخذون من كتب الفلسفة، و كتب الأدب واللغة،

 و أما كتب القرآن و الحديث و الآثار فلا يلتفتون إليها. هؤلاء يعرضون عن نصوص الأنبياء إذ هي عندهم لا تفيد العلم!! و أولئك يتأولون القرآن برأيهم و فهمهم بلا آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم  و أصحابه، وقد ذكرنا كلام أحمد و غيره في إنكار هذا و جعله طريقة أهل البدع

(14).

______________
الهوامش :

1-جامع البيان للطبري .

2-تفسير القرآن العظيم (2/466).

3-تيسير الكريم الرحمن.

4-جامع البيان.

5-رواه مسلم في الفضائل (4/1782).

6-انظر اقتضاء الصراط المستقيم (1/375) تحقيق د.ناصر العقل  ط . الرابعة .

7-الفتح (9/8-9).

8-كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري  كتاب مشهور ، تلقته الأمة بالقبول ، واحتج به العلماء ، وذكره ابن القيم محتجا به في أعلام الموقعين (1/85) بثلاثة أسانيد ، وصحح أحدها الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى في المحلى (1/60)، وانظر تعليقنا على ((  النبذ في أصول الفقه )) لابن حزم ( ص120 ).

9-جامع بيان العلم ( 2229 ) وإسناده صحيح.

10-المصدر السابق (2230).

11-المصدر السابق (2/1132).

12-فرارا من القبول بأن الله تعالى خلق للنار أهلا ، وللجنة أهلا، إذ لا يعلم ما الخلق عاملون وهم في أصلاب آبائهم ! وهو قول القدرية والمعتزلة .

13-الاعتصام (1/301-304) باختصار .

14-مجموع الفتاوى (7/118، 119).

زر الذهاب إلى الأعلى