دعوة

المقاطعة إتباع لا ابتداع

 

الحمد لله رب العالمين والصّلاة والسّلام على رسوله الأمين وآله وصحبه أجمعين
أما بعد ،،،
فهذه بعض النّقاط حول المقاطعة ومشروعيتها ، جمعتها مما كتب أهل العلم ، نسأل الله أن ينفع بها الإسلام والمسلمين .

أولا – مشروعيّة المقاطعة :

ثبت في عدد من الأدلّة الشّرعيّة مشروعيّة المقاطعة التّجارية للعدو ، وأنها وسيلة مشروعة لإرغام العدو والتضييق عليه ، أو الانتقام منه وأخذ الثأر .
وتلك الأدلة منها ما هو عام الدلالة تندرج تحته المقاطعة ، ومنها ما هو خاص بها ، ومن ذلكم :

( أولا ) كل آيات الجهاد في كتاب الله المتضمنة لجهادي المال والنفس ،  تصلح أن تكون دليلا نحو قوله تعالى :
( أ ) {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(41)} سورة التوبة .
( ب ) وقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(11)} سورة الصف .
والمقاطعة التجارية داخلة في جهاد العدو بالمال ؛ لأن الجهاد كما يكون ببذل المال لمكافحة العدو وإضعافه ، يكون بإمساكه عنه لإضعاف العدو كذلك !
ونلاحظ تقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في كل الآيات ، إلا في موضع واحد في سورة التوبة:{إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} (111) سورة التوبة .
وهذا التقديم للجهاد بالمال على النفس له دلالة ولا بد ، ولعل منها : قدرة كل المكلفين على الجهاد بالمال سواء كان بذلاً وإمساكاً بلا استثناء ، بخلاف الجهاد بالنفس الذي قد يعجز عنه بعض المكلفين ، أو يُحال بينهم وبينه .
ومنها: أن الجهاد بالمال يدعم الجهاد بالنفس وليس العكس .
ومنها : أنه أسبق منه إعداداً وتنفيذاً في ميادين الجهاد ، فناسب ذلك سبقه عليه في الذكر الحكيم .

( ج ) قوله تعالى – في أوجه العمل الصالح الذي يُكتب لصاحبه لوناً من ألوان الجهاد {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون } ( 120- 121) سورة التوبة .
والمقاطعة الاقتصادية للعدو فيها نيل عظيم منه ولا شك ، لمـّا تبور تجارته بديار المسلمين ، ويحل بها الكساد .

* أما من السنة النبوية :

( أ ) فقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي أخرجه أبو داود والنسائي : “جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم” .
وقد تقدم أن الجهاد بالمال كما يكون بإنفاقه في الغزو وتجهيز الغزاة ، فإنه يكون بإمساكه عن الوصول للعدو لئلا يتقوى به على قتال المسلمين والإضرار بهم .

( ب ) كل الغزوات والسّرايا التي كانت قبل غزوة بدر الكبرى ، بل حتى غزوة بدر ذاتها ، كان هدفها الأوّل هو الحصار الإقتصادي ، واعتراض القوافل ، وقطع تجارة قريش ، إضعافاً للعدو وكسراً لشوكته …
والمقاطعة الاقتصادية داخلة في هذا الباب بلا شك .

(ج ) وأيضا قصة ثمامة بن أثال رضي الله عنه لمّا أسلم ، فقطع تجارة الحنطة عن قريش التي كانت تأتيهم من قِبَله من اليمامة ، وأقسم لهم : “ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبّةُ حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم ” وخبره هذا في الصحيحين.
فكان ثمامة رضي الله عنه بذلك أول مقاطِع تجاري للعدو في الإسلام بمعناه الاصطلاحي اليوم .

فالدّلالات على مشروعية المقاطعة في الأدلة السابقة واضحة ، ولا تنزل عن حد الإباحة ، بل المقاطعة التجارية عند الحاجة إليها ، وانحسار الجهاد بالنفس وقلته ، تعد مطلباً شرعياً ، وتخرج من حيّز الإباحة ، وينحصر حكمها بين الوجوب والاستحباب .
ولا نرى الألزام بها وإيجابها على المسلمين الآن ، لعدة اعتبارات ، منها : احتياج ذلك لألزام ولي الأمر به ، وعدم مخالفته والافتيات عليه بإلزام الناس بالمقاطعة .
ومنها : ارتباط كثير من تجار المسلمين ومصانعهم بتجارات الغرب ومصانعه ، فلا بد من التمهيد لذلك والاستعداد له .

* صور من المقاطعة عبر التاريخ :

المقاطعة سلاح فعال من أسلحة الحرب قديماً وحديثاً ، فمن صورها :

1- ائتمار قريش واتّفاقهم ، على مقاطعة بني هاشم وحصرهم في شعب أبي طالب ، وقد استمرت هذه المقاطعة سنتين أو ثلاثا.

2- ما فعله ثمامة بن أثال رضي الله عنه كما سبق ذكره .

3- في أواخر القرن التاسع عشر في إبان حركة تحرير ايرلندا ضد السيطرة الإنجليزية ، امتنع حلف الفلاحين ، من التعامل مع وكيل أحد اللوردات الإنجليز من أصحاب الإقطاعيات الزراعية في ايرلندا.

4- في عام 1921م ، أصدر حزب الوفد المصري ، بعد اعتقال رئيسه سعد زغلول قراراً بالمقاطعة الشاملة ضد الإنجليز ، وشمل قرار المقاطعة حث المصريين على سحب ودائعهم من المصارف الإنجليزية ، وحث التّجار المصريين على أن يُحتّموا على عملائهم في الخارج ألا يشحنوا بضائعهم على سفنٍ إنجليزية ، كما أوجب القرار مقاطعة التّجار الإنجليز بشكل تام.

5- بعد الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945م) امتنع كثير من الناس في أوروبا من شراء البضائع المصنعة في ألمانيا ، بسبب احتلالها لبلادهم .

6- ما دعا إليه الزعيم الهندي غاندي ، من مقاطعة البضائع الأجنبية بإحراقها علناً في بومباي ضمن سلسلة من أعمال الاحتجاج ضد الاستعمار البريطاني للهند .

7- قاطع السود في مدينة مونتجمري بولاية ألباما بأمريكا نظام سير الحافلات المدينة ، مما قضى على سياسة الفصل الإجتماعي داخل الحافلات منذ الستينات .

8- ومن صور المقاطعة الإقتصادية رفض المستهلكين في بلدان عديدة ، منذ مطلع الستينات حتى أوائل التسعينات في القرن العشرين ؛ شراء بضائع من جنوب إفريقيا؛ احتجاجاً على سياسة التفرقة العنصرية .

9- ومن أمثلة المقاطعة الاقتصادية ، أن معظم الدول العربية كانت تقاطع إسرائيل بسبب احتلالها لأرض فلسطين المسلمة واستمرت المقاطعة سنين طويلة .

10- ما قام به الملك فيصل رحمه الله من استخدام سلاح المقاطعة الاقتصادية بشكل مؤثر ، في أعقاب حرب 1967م وحرب 1973م ، فبعد يومين من نشوب الحرب الأولى ، أعلن حظر البترول السعودي عن بريطانيا والولايات المتحدة ، وعلى إثر نشوب حرب 1973م تزعم حركة الحظر البترولي الذي شمل دول الخليج ، فكان لهذا الحظر أثره في توجيه المعركة .

*  فوائد عامة للمقاطعة :

1- المعرفة بالعدو للمسلمين : بالتّذكير المستمر به ، وتربية أطفالنا وشبابنا على ذلك .

2- إبراز إرادة الشعوب الإسلامية : بتسجيل مواقف للشعوب الإسلامية ، والتعبير عن إرادتها حيث جاءت المقاطعة بإرادة الشعوب المسلمة .

3- التأثير الإقتصادي : فقد أثّرت أثرا بالغًا على الإقتصاد الغربي وبوار بضائعه ، والذي يؤثر على القرار السياسي هناك .

4- مشاركة النّساء في الجهاد بالمال ، فلهنّ رأي أساسي في اختيار البضائع في الغالب في البيوت .

5- المقاطعة برهان يقدّمه المسلم على رفضه للمشاريع الغربية في فرض هيمنتها على العالم الإسلامي ببضائعها ، والقضاء على الإنبهار المسيطر على النّاس بكل ما هو مستورد .

6- تنمية الإقتصاد الوطني والعربي الإسلامي ، بشراء البضائع الإسلامية والعربية .

7-  المقاطعة من الفقة المنسي الذي يؤكّد شمولية هذا الدين لكافة مناحي الحياة .

على أننا ننبه : أن السبب الأول في النصر ، هو طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بفهم سلف الأمة ، وتحكيم شريعة الله عزوجل في الأرض والديار الإسلامية ، والبعد عن المعاصي والمنكرات والفواحش مما يغضب الله سبحانه ، وترك التفرق والاختلاف والتناحر والتدابر ، وإعداد العدة لمواجهة أعداء الله ، وغيرها من أسباب النصر التي سبق الكلام عليها في الأسابيع لالماضية .
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى ، وكتب النصر والعز والتمكين لهذه الأمة المباركة ، والله تعالى أعلى وأعلم .
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين .

زر الذهاب إلى الأعلى