فـقـه

حكم التجسس والجاسوس في الإسلام

التجسس لغة : تتبع الأخبار ، ومنه الجاسوس الذي لأنه يتتبع الأخبار .
والتجسس على المسلمين في الأصل حرام منهيٌ عنه ، لقوله تعالى ( ولا تجسسوا ) الحجرات . لأنه تتبع لعورات المسلمين ومعايبهم ، والاستكشاف لما ستروه .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم محذرا : ” يا معشر من آمن بلسانه ، ولم يدخل الإيمان إلى قلبه ، لا تتبعوا عورات المسلمين ، فإنّ من تَتبّع عورات المسلمين تتبع الله عورته ، حتى يفضحه ولو في جوف بيته ” أخرجه الترمذي .
ويباح التجسس في الحرب من المسلمين على عدوهم من الكفار المحاربين ، وبعث الجواسيس لتعرف أخبار الكفار وجيوشهم ، وعددهم وعتادهم وما إلى ذلك مما يعين على قتالهم .
كما يباح التجسس والتحري إذا قيل للحاكم : إنّ في بيت فلان خمراً ، وشهد بذلك شهود ، أو قيل : فلان خلا بامرأة أجنبية ، وذلك لمنع الشر ومكافحة أهله .
وكذلك يحل للمحتسب أن يكشف عن مرتكبي الفواحش ، إذا ظهرت له علاماتها ، من صوت وزمر ونحوها .

* أما التجسس على المسلمين لمصلحة الكفار : فهو خيانة للدّين ، ومحاربة للمسلمين ، ومبارزة بالعداوة لهم ، وسعي في إيقاع الضرر بل الهلاك بهم ، ومعاونة لأهل الشرك والكفر عليهم ، وكلها كبائر عظيمة ، وتصل للردّة إذا صدرت من المسلم ، قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تَخونوا اللهَ والرسولَ وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ) الأنفال : 27 .
وهي من نواقض العهود والمواثيق إذا صدرت من المعاهدين وأهل الذمة ، قال تعالى ( إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم يَنقصوكم شيئاً ولم يُظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدّتهم ) التوبة : 4.
وقال ( فما استَقاموا لكم فاستقيموا لهم ) التوبة : 7 .
وقال سبحانه ( ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم ) التوبة : 13 .
* أما أقوال الفقهاء في حكم الجاسوس على المسلمين :
فقد تحدث الفقهاء عن عقوبة الجاسوس مسلماً كان أو كافرا ، فقالت المالكية والحنابلة وغيرهم : يقتل الجاسوس المسلم إذا تجسس للعدو على المسلمين .
وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى عدم قتله ، وإنما يعاقب تعزيراً ، إلا إن تظاهر على الإسلام فيقتل ، أو ترتب على جاسوسيته قتل ، ومثله الذمي .
و‏إن كان كافراً يقتل في حال الحرب ، وكذلك في حال السلم إن كان هناك عهد لأنّه نقض للعهد .

وقد ورد في السنة النبوية : ما يدل على قتل الجاسوس مطلقا ، فعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال :” أُتي النبي صلى الله عليه وسلم عينٌ من المشركين وهو في سفر فجلس عند أصحابه ، ثم انسل، فقال صلى الله عليه وسلم :” اطلبوه فاقتلوه ” قال : فسبقتهم إليه فقتلته ، وأخذت سلبه ، فنفلني إياه ” (رواه البخاري وأبو داود ).

وقوله : ” أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين ” في رواية لمسلم : أن ذلك كان في غزوة هوازن .  وسمّي الجاسوس عيناً لأنّ عمله بعينه ، أو لشدة اهتمامه بالرؤية واستغراقه فيها كأن جميع بدنه صار عينا.
وفي الحديث : دليل على أنه يجوز قتل الجاسوس .
قال النووي : فيه قتل الجاسوس الحربي الكافر ، وهو باتفاق .

وأما المعاهد والذمي : فقال مالك والأوزاعي : ينتقض عهده بذلك .
وروي عن الإمام مالك بن أنس قوله : ” الجاسوس المسلم الحكم الشرعي فيه : القتل مطلقا ، لإضراره بالمسلمين ، وسعيه بالفساد في الأرض ، وهو حد الحرابة (تفسير القرطبي ‏18/‏50-‏ ‏53).
‏ووافقه بعض أصحاب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه”.
وعند الشافعي ينتقض عهده إذا كان شرط عليه ذلك .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :” وأما مالك وغيره فحكى عنه أن من الجرائم ما يبلغ به القتل ، ووافقه بعض أصحاب أحمد في مثل الجاسوس المسلم إذا تجسس للعدو على المسلمين.. فإن أحمد يتوقف في قتله ، وجوز مالك وبعض الحنابلة كابن عقيل قتله ، ومنعه أبو حنيفة والشافعي وبعض الحنابلة كالقاضي أبي يعلى”.(السياسة الشرعية ص115-114، مجموع الفتاوى 35/405،345).

وجاء في كتاب ” تبصرة الحكام ” لابن فرحون المالكي : قال سحنون من المالكية: إذا كاتب المسلم أهل الحرب قتل ولم يستتب (أي : لم تطلب منه التوبة كما تطلب من المرتد ) ، ولا دية لورثته كالمحارب .. وقال ابن القاسم : يقتل ، ولا يعرف لهذا توبة ، وهو كالزنديق .(أقضية الرسول صلى الله عليه وسلم ، ص191).

وقد أجاز الحنفية قتله سياسة ، كما أجازوا قتل الساحر والزنديق الداعي ؛ لأن كلا منهم يفسد في الأرض بسعيه في إفساد عقيدتهم ..
وقال سلطان العلماء العز بن عبد السلام في كتابه القيم : قواعد الأحكام في مصالح الأنام  (1/ 19): إن ” ما يسببه الجاسوس- الجاسوس الذي ظاهره الإسلام-أعظم عند الله من التولي يوم الزحف بغير عذر “.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في اختياراته : من جَمَز إلى معسكر التّتر ، ولحق بهم ارتد ، وحل ماله ودمه . نقلا عن (الدرر السنية 8/338، ومجموعة الرسائل النجدية 3/35)، وعلق الشيخ رشيد رضا في الحاشية بقوله : ” وكذا كل من لحق بالكفار المحاربين للمسلمين وأعانهم عليهم ، وهو صريح قوله تعالى : ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) .
وقال الإمام ابن القيم معلقا على قصة حاطب رضي الله عنه : “‏ فيه جواز قتل الجاسوس ، وإن كان مسلما ، والعفو عن حاطب لأنّ اللّه قد غفر لأهل بدر وهو منهم ، فمن لم يكن كذلك جاز قتله ، وهو مذهب مالك وأحد الوجهين في مذهب أحمد . وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا يقتل ، وهو ظاهر مذهب أحمد ، والفريقان يحتجان بقصة حاطب .‏
ثم قال : والصحيح أنّ قتله راجع إلى رأى الإمام : فإن رأى في قتله مصلحة للمسلمين قتله ، وإن كان بقاؤه أصلح استبقاه .‏ وهو رأى معقول يرجع فيه لتقدير المسؤولين ومصلحة الأمة ، وقتله إما حداً وإما تعزيراً ، وآية المحاربة والإفساد في الأرض فيها متسع للآراء”.(زاد المعاد في هدي خير العباد ‏2/‏170).

وقال في (الطرق الحكمية ص 156): ” يجوز قتل الجاسوس المسلم إذا اقتضت المصلحة قتله ، وهذا قول مالك وبعض أصحاب أحمد واختاره ابن عقيل “.

وقال في الجاسوس الذمي :” الجاسوس عين المشركين وأعداء المسلمين ، وقد شرط على أهل الذمة ألا يؤووه في كنائسهم ومنازلهم ، فإن فعلوا انتقض عهدهم ، وحلّت دماؤهم وأموالهم ، وهل يحتاج ثبوت ذلك إلى اشتراط إمام العصر له على أهل الذمة ؟ أم يكفي شرط عمر رضي الله عنه ؟ على قولين معروفين للفقهاء ” (أحكام أهل الذمة ص1233) .
وقال الشوكاني تعقيبا على حديث فعل حاطب بن أبي بلتعة : وفى الحديث دليل على أنه يجوز قتل الجاسوس ، وأن فيه متمسكًا لمن قالوا : إنه يجوز قتل الجاسوس ، ولو كان من المسلمين “.(نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار 8/166- 165).
ويحكم على الرجل أو المرأة بالعمالة والجاسوسية بشهادته وإقراره ، أو بالبينة الواضحة والأدلة الظاهرة ، أو بشهادة رجلي عدل ، حيث قال .

ولابد من التنبيه : على أن قتل الجاسوس وما يسمى اليوم بالعميل أو والعميلات هو من اختصاص الدولة الإسلامية ، والحاكم المسلم ، كغيره من إقامة الحدود والتعزيرات ، حتى لا تحدث الفوضى والتجاوزات في بلاد المسلمين .
كما يجب التثبت من عمالة المتهمين بالعمالة والخيانة ، حتى لا يحكم على الناس بالظن ، أو بمجرد التهمة التي لا دليل يدل عليها ، وقد قال ابن مسعود : ” ادرؤوا الحدود بالشبهات ” ويروى مرفوعا .

والله تعالى أعلم

زر الذهاب إلى الأعلى