أرشيف الفتاوى

المتوفّى بسبب كورونا هل يكون شهيداً؟

المتوفّى بسبب كورونا هل يكون شهيداً؟

المتوفى بسبب “كورونا

 

السؤال: هل المتوفى بسبب فيروس “كورونا” يعدّ شهيدا ؟

الجواب :

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه .

وبعد:

فمن المعلوم أنَّ للشهداء في سبيل الله عز وجل منازل عالية عنده، ودرجات رفيعة، وخصائص لا ينالها غيرهم، يَغْبطهم عليها الناس.

ومِنَ المتقرّر عند العلماء؛ أنَّ الشُّهداء على ثلاثة أقسام:

الأول: شهيدٌ الدّنيا والآخرة، وهو مَنْ يُقْتل في حَرْب الكفار، أو البغاة، أو قطَّاع الطريق، مقبلاً غير مُدْبر، مُخلصًا غير مُراء.

والثاني: شهيد الدّنيا: وهو منْ قتل فيما سبق، لكنه كان مِنْ أصْحاب الكبائر، كمن غلّ في الغنيمة، أو قتل مُدبرًا، أو قاتل رياءً وسُمعة، ونحو ذلك؛ فهو شَهيد في الظاهر ، وفي أحْكام الدنيا، لكنه ليس بشهيد في الآخرة.

والثالث: شهيد الآخرة: وهو مَنْ له مرتبة الشّهادة، وأجر الشّهيد في الآخرة، لكنه لا تَجري عليه أحْكامُ شهيدِ الجِهاد في الدنيا، من عدم تغسيله ودفنه بثيابه، وعدم الصّلاة عليه؛ وذلك كالميّت بداء البطن، أو بالطّاعون، أو بالغرق، ونحو ذلك مما سيأتي ذكره،  وهذه تُسمَّى بالشَّهادة الحُكْمية، أي: له حُكم الشَّهيد في الآخرة ومنزلته.

وقد وسَّعت الشريعة الغرّاء هذا النوع الثالث؛ فعدَّدت أسْباب الشهادة ونوَّعتها؛ تفضلًا مِنَ الله تعالى على الأمة المحمّدية وتكرّما،  ورفعةً في منازلهم ودرجاتهم في جنّات النعيم، وتسليةً للمؤمنين عن مُصَابهم في أحْبابهم.

* والأحاديث في هذا القسم كثيرة، فمنها:

1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: المَطعُونُ، والمَبطُونُ، والغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الهَدمِ، والشّهِيدُ في سَبِيلِ اللهِ”. رواه البخاري.

2- وعن جابر بن عتيك رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الشُّهداءُ سَبْعةٌ، سِوى القَتْل في سبيل الله: المَطْعونُ شَهيدٌ، والغَريق شَهيد، وصاحبُ ذاتِ الجَنْبِ شَهيد، والمَبْطون شَهيد، والحَرْق شَهِيد، والذي يموتُ تحتَ الهَدْم شَهيد، والمرأة تموت بجمعٍ شهيد”. رواه أبو داود وابن ماجة وغيرهما .

قال النووي: والمبْطون هو صاحب داء البطن، وهو الإسْهال. وقال القاضي: وقيل: هو الذي به الاسْتسقاء وانتفاخ البطن. وقيل: هو الذي تشتكي بطنه. وقيل: هو الذي يموت بداء بطنه مُطلقًا.

ومنْ جنسه: من مات بسرطان المعدة، أو القولون، أو الكبد، أو البنكرياس، يعدُّ شهيداً؛ لأنها منْ أدْواء البطن التي تُميت صاحبها.

وقوله: “المرأة تموت بجُمع شهيد” أي: تموتُ وفي بطنها ولد، فإنها ماتتْ مع شيءٍ مَجْموع فيها غير مُنْفصل، وهو الحَمل. وقيل: هي التي تموت بكرًا. والأول أشهر كما قال الحافظ في الفتح.

3- وعن سعِيدِ بنِ زَيْدٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم يقُول: “مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ “. رواه أبو داود (4772)، والترمذي (1421).

فمن مات مدافعاً عن دينه، أو ماله، أو عِرْضه، فهو من الشُّهداء عند الله تعالى.

4- وعن أَبِي هُريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم قال: “مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي الْبَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ”.  رواه مسلم (1915).

5- حديث عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليْه وسَلَّم: “مَنْ صُرِعَ عَنْ دَابَّتِهِ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ “. رواه الطبراني في “المعجم الكبير” (17/323)، وصحح إسناده الألباني في “السلسلة الصحيحة” (4/231).

ومثله: الذي يموتُ بسببِ حادث سيارة، أو دراجة، أو طائرة ونحوها.

 لكن بشرط ألا يكون قد تهوَّر في ركوبه لها، أو ألقى بنفسه إلى التهلكة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ومنْ أرادَ سُلوك طريقٍ يستوي فيها احتمالُ السلامة، والهلاك؛ وَجَبَ عليه الكفّ عن سُلوكها، فإنْ لم يَكف فيكون أعانَ على نفسه؛ فلا يكونُ شهيدًا” اهـ .

6- وعن سهلِ بْنِ حُنَيْفٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: “مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ؛ وإِنْ مَاتَ على فِرَاشِهِ”. رواه الإمام مسلم (1909).

فهذا الذي يموتُ على فراشه؛ مع تمنيه الشَّهادة؛ حصلتْ له هذه المَنْزلة؛ بصدقِ نيّته، ورغبته فيها.

7- عن رَاشِدِ بنِ حُبَيْشٍ رضي الله عنه: “أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم دَخَلَ على عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ يَعُودُهُ في مَرَضِهِ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: “أَتَعْلَمُونَ مَنِ الشَّهِيدُ مِنْ أُمَّتِي؟ فأَرَمَّ الْقَوْمُ، فقَال عُبَادَةُ: سَانِدُونِي، فأَسْنَدُوهُ، فقال: يا رسولَ اللهِ، الصَّابِرُ المُحْتَسِبُ، فَقال رسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: “إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ؛ القَتْلُ في سَبِيلِ اللهِ عزَّ وَجَلَّ شَهَادَةٌ، والطَّاعُونُ شَهَادَةٌ، والغَرَقُ شَهَادَةٌ، والْبَطْنُ شَهَادَةٌ، والنُّفَسَاءُ يَجُرُّهَا وَلَدُهَا بِسُرَرِهِ إِلَى الْجَنَّةِ”. قال: وزادَ فِيها أَبُو العَوَّامِ سَادِنُ بَيْتِ المَقْدِسِ: “والْحَرْقُ، والسَّيْلُ”.

قال المناوي رحمه الله: “والسّيل”: بفتح السين المشددة ومثناة تحتية؛ أي: الغَرق في الماء. كذا ضبطه المصنف بخطّه، ورأيته بعيني فيه، فما في كثير من النسخ منْ أنه: “السّل” تحريفٌ من النساخ” . “فيض القدير” (4/698). وبنحوه في “الفتح الرباني” للساعاتي (14/38).

وغيرها من الأحاديث.

– قال النووي: قال العلماء: وإنّما كانت هذه الموتات شهادة يتفضَّل الله تعالى؛ بسبب شدّتها، وكثرة ألمها. اهـ

وقال ابن التين: هذه كلُّها ميتات فيها شِدّة، تفضّل الله على أُمة محمد صلى الله عليه وسلم، بأنْ جَعلها تمحيصًا لذُنُوبهم، وزيادةً في أجورهم، يُبلّغهم بها مراتبَ الشهداء اهـ .

فكلُّ هؤلاء الأصناف ومَنْ شابههم، يشاركون شهيدَ المعركة في أصْل فضل الشَّهادة وثوابها، كما يدلٌّ عليه ظاهر التّسمية.

– قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: “فهذه الخصال، ورد في كل منها أنَّ صَاحبها شهيد؛ بمعنى أنّه يُعطى أجرَ الشَّهيد، وغالبها مِيْتات فيها شدّة، تفضل الله بها على الأمة المحمَّدية، بأنْ جعلَها تمحيصًا لذنوبهم، وزيادة في أجُورهم، ومراتبها مع ذلك متفاوتة فيما يظهر، حتى في الأشخاص، والله أعلم”. انتهى من “بذل الماعون” (ص 186).

وقد نصّ جماعة من العلماء على أنّ خصالَ الشَّهادة؛ ليست محصورةً في هذه الخِصال الواردة في الأحاديث؛ بل أوْصلها العلماء إلى أكثر من ذلك، والجامع بين هذه الخصال هو الألم والشدّة عند الموت، والموت بسبب “فيروس كورونا” داخل في أسباب الشهادة، ويتحقق لك من جهات متعددة منها:

شِدَّة ألَمِه، واسْتفحال شرّه، والتي جعلها العلماء علةَ أجر الشهادة في الخِصال المنصوص عليها؛ كما سبق.

كما أنّ الموت بسبب فيروس كورونا يدخل تحت اسْم الطاعون؛ فإنّ معنى “الطاعون” عند كثير من المحققين وأهل اللغة: المرضُ والوباء العام، وفيروس كورونا، يُعدّ وباءً عالميًّا، والميتُ به ميتٌ بوباءٍ، فهو من جنس الطاعون.

كما أنّ مرض “الكورونا” داخل في المعنى اللغوي العام؛ لبعض الأمراض المنصوص عليها في أسْباب الشهادة؛ وهو المبطون.

وعليه: فالموت بسبب “فيروس كورونا” يدخل تحت أسباب الشَّهادة الواردة في الشرع ، فمن مات بسببه فهو شهيد إنْ شاء الله؛ له أجر الشهادة في الآخرة؛ رحمةً من الله تعالى به، وتفضلاً عليه، غير أنه تجري عليه أحكام الميت العادي؛ من تغسيلٍ، وتكفينٍ، وصلاةٍ عليه، ودفنٍ.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

زر الذهاب إلى الأعلى