فـقـهمقالات

أحْكام الهِجرة

أحْكام الهِجرة

أحْكام الهِجرة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.

أما بعـد:

فمعنى الهِجْرة المُطْلق شَرَعاً هو: الخُروج في سبيل الله مِنْ دار الكُفر إلى دار الإسْلام، ومِنْ دار شَديدة الفتن إلى دارٍ أقلّ منْها فتنة.

والهِجْرة نوعان:

النوع الأول: هجرة مكانية حسيّة ظاهرة، وهي مرتبطةٌ بالخروج والانتقال منْ أرض الكفر إلى أرض الإسلام، ومنْ دار تشتدّ فيه الفتن إلى دارٍ تقل فيه الفتن، وهذا النوع من الهجرة مشروع.

والنوع الثاني مِنَ الهِجْرة: هو هجْر المعاصي والذنوب والآثام، وكل ما نَهَى الله تعالى عنه، وممّا نهى الله تعالى عنه: الإقامة بين أظهر المشركين لمَن لمْ يقدر على إظهار دينه، وهذه الهِجرة المعنوية القلبية الباطنة؛ شاملة لنوعي الهجرة: هجر الديار والأوطان، وهجْر المَعاصي والذنُوب والآثام، وهي الأصْل والمَقْصد، والحسيّة الظاهرة هي وسيلة إليها.

أمّا أحْكام الهِجْرة الحسيّة المَكانية الظاهرة:

فالأولى: هِجْرة واجبة: وهي من دار الحرب إلى دار الإسلام على من يقدر عليها ولا يُمكنه إظهار دينه وتُلحق به الدار التي يُعمل فيها بمعاصي الله جهاراً إذا لم يتمكن من إظهار دينه.

الثانية: هِجْرة مُسْتحبة ومندوبة: وهي لمن يقدر عليها، وهو متمكن من إظهار دينه.

الثالثة: هِجْرة مُبَاحة: أو غير واجبة على العاجز إما لمرضٍ، أو إكراه كالأسير، أو الضعيف من النساء والولدان وشبههم.

– قال الحافظ ابن حجر في الفتح مُبيناً حُكم الهِجرة، ومتى تَجب، ومتّى تستحب، قال: فلا تجبُ الهِجرة من بلدٍ قد فتحه المسلمون، أمّا قبل فتح البلد فمن به مِنَ المسلمين أحد ثلاثة:

الأول: قادرٌ على الهجرة منْها، لا يمكنه إظهار دينه، ولا أداء واجباته، فالهجرةُ منه واجبة.

الثاني: قادرٌ لكنه يمكنه إظهار دينه، وأداء واجباته، فمستحبة لتكثير المسلمين بها ومعونتهم، وجهاد الكفار، والأمن من غدرهم، والراحة من رؤية المنكر بينهم.

الثالث: عاجزٌ بعُذرٍ مِنْ أسر أو مرض أو غيره، فتجوز له الإقامة، فإنْ حمل على نفسه، وتكلف الخروج منها؛ أُجِرَ … انتهى.

فالهِجْرة الواجبة مع القُدرة: هي الهِجْرة من بلاد الشّرك إلى بلاد الإسلام، إذا لم يستطع المسلم من إظهار دينه، وبيان ما أوجب الله عليه من توحيد الله، والإخلاص له، والبراءة من الشرك، وأهله، وإظهار ما أوجب الله من الشعائر، كالصلاة والصيام، فإنّ هجرته واجبة عليه، كما هاجر المسلمون الأوائل من مكة إلى المدينة، لمّا حصل من الكفار المضايقة، والأذى.

والهجرة الثانية: الهِجرة مِنْ بلاد المسلمين إذا ظهرت فيها المعاصي، والبدع، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنّها تجبُ إذا ظَهَرت في أي بلدٍ البدع، والأهْواء، والمُنكرات علانية، مثل: الزّنا، وشُرب الخمور، ونحو ذلك، وجب الهِجرة عند جمع منْ أهل العلم، وقال آخرون: لا تجب، ولكنْ يجب على المُؤمن أنْ يُنكر المُنكر حسب طاقته بيده، ثمّ بلسانه، ثمّ بقلبه، كما جاءت به الأحاديث، ولا تجب الهجرة.

فمن قال بوجوبها قال: لأنّ المعنى في الهِجْرة الكبرى سلامة الدّين، وكذلك هنا إذا هاجر، فإنه إذا بقي بين العصاة، أو الجاهلين، وبين أهل البدع، يخشى عليه أنْ يُصِيبه ما أصابهم مِنَ البِدع، والجِهار بالمَعاصي، فالقول بهِجْرته من بين المُسْلمين المجاهرين بالمعاصي، قولٌ قويٌ حتى يَسْلم دينه منْ هذه البِدع، وهذه المعاصي الظاهرة.

ومَنْ قال لا تجب؛ قال: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ رأى منْكم مُنْكراً؛ فليغيره بيده،..”. الحديث، ولمْ يقل: فليُهاجر، فلهذا لا تجبُ الهِجْرة مِنَ المعاصي، ولكنْ تجب من بلاد الشرك.

* أمّا الهجرة لبلاد الكفار:

فمَنْ أصابه الأذى في بلده، ولمْ يَسْتطع أنْ يظهر دينه فيها، أو طلبه ظالمٌ ليسجنه أو يقتله، وتعذّرت عليه الهِجرة إلى دولة إسلامية، وتيسرت له الهجرة إلى دولة غير إسلامية كأوربا أو أمريكا أو غيرها، يكون فيها المسلم آمناً على نفسه مُظْهراً لدينه؛ فلا حرج عليه في ذلك بشروطٍ يأتي ذكرها.

– أمّا الهجرة غير الشّرعية إلى أوربا وغيرها من بلاد الكفر: فإنَّها لا تَجُوز، لما فيها مِنْ تسبّب المسلم بإذْلال نفسه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يَنْبغي للمُسْلم أنْ يُذلّ نفسَه، قالوا: وكيفَ يُذلُّ نفْسَه؟ قال: “يُعرّضُ نَفْسَه مِنَ البلاء لمَا لا يُطيق”. رواه الترمذي، وصححه الألباني.

– ومع ذلك؛ فقد يَسْتحبُّ لبعض الناس مِنَ الدُّعاة وطلبة العلم؛ الإقامة بين الكفار في أحْوال مَخْصُوصة، تزيد فيها مَصْلحة بقائهم هناك على مفْسَدتها.

قال الشيخ ابن عثيمين: “الإقامة بين ظهراني المشركين، لا شكّ أنّها ضرر، وأنّ الإنسان يَعرض نفسَه للفتنة، والشّر، ولكن إذا كان في الإقامة خيرٌ أكبر، مثل أنْ يذهب هناك ليدعو الناس إلى دين الله، أو ليُعلّم أبناء المسلمين العقيدة الصّحيحة، فإنَّ هذا لا بأس به؛ لأنّ المَصلحة هنا أكبر مِنَ المَفْسدة المتوقعة، على أنّه يُمْكن أن يُحمل الحديث: “أنا بَريءٌ مِنْ كلّ مسلمٍ يُقيم بين ظَهْراني المُشْركين”. على أنَّ المُراد بذلك: مَنْ لمْ يتمكّن مِنْ إظْهار دينه، وأمَّا مَنْ تَمكّن مَنْ إظهار دينه، فإنّه لا يَدخل في الحديث، لكن الأولى أخذه على العُمُوم، فإذا كانت إقامته أنفع للإسْلام والمسلمين، فلا حَرَج” اهـ.

– وكذلك الوقُوع في المَخاطر والمَهالك التي تترتّب عليها، فقد يتعرَّضُون للضّياع في البحر، بل والغَرَق والموت، همْ وأسَرهم وأطفالهم؟! كما حصل ذلك مراراً، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله، أو في يتيهون الصحراء ويهلكون، أو يُعتقلون ويُسجنون، والله تعالى يقول: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) البقرة: 195).

ويقول تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) النساء: 29.

فصاحبُ هذه الهجرة معرضٌ نفسه للهَلاك، أو الاعتقال والإذْلال، ولهذا فإنّها لا تجوزُ له شَرعاً، ويأثم بهذه الهجرة.

وقد اتفقّ العلماء على أنّ ركوبَ البَحر إذا كان مظنّة للهلاك، لمْ يَجز رُكوبه.

وحفظ النَّفْس- كما هو معلوم- أحدُ مقاصد الشّرع الخَمسة، التي تقع في مرتبة الضّروريات.

وللحاكم أنْ يسنّ من التَّشريعات، ما يَراه مُحقّقاً لمَصالح العباد.

– كما قد ثبت بالآيات القرآنية، والأحاديث النَّبوية؛ حُرْمة الكذب والتّزوير.

– وأيضاً: لا يجوز خَرْق المُعاهدات والعُقود الدولية، التي تُنظّم الدخول والخروج من بلد إلى آخر.

والهجرة غير الشَّرعية بالطريقة المخالفة للقوانين والاتفاقات الدولية، لا يجوز فعلها أو الإقدام عليها شَرْعا.

زر الذهاب إلى الأعلى