أرشيف الفتاوىفتاوى

حكم الذَّكَاء الاصْطِناعي شرعا

حكم الذَّكَاء الاصْطِناعي شرعا

 حكم الذَّكَاء الاصْطِناعي

 

السؤال: ما حُكمُ الدّين في الذّكاءِ الاصْطِناعي وصُوره؟

الجواب:

الحمد لله، والصّلاة والسلام على رسُول الله، وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

وبعد:

فالذَّكاءُ الاصْطِناعي بتَقَنيّاته وأنْظمته المُخْتلفة، مِنَ المَسائل العلميّة المُسْتجدّة، التي لم يَعْرفها فقهاء الشّريعة القُدامى، وقبلَ الحديث عن الموقفِ الشّرعي مِنْ تلك التقنيات الذّكيّة، وما تقدّمه للبشريّة منْ خَدَماتٍ جليلةٍ في مَجَالاتٍ عدّةٍ، نَتعرّض لمَكانة العلم في الشّريعة الإسلامية.

فالناظر والمُتأمل في كتابِ الله عزّوجل، وسُنّة رسُوله الكريم صلى الله عليه وسلم، يَجد أنّه لا يوجد دينٌ مِنَ الأدْيان، أعلى منْ شَأنِ العِلم والعلماء، مثلَ دينِ الإسْلام، يدلّ على ذلك أنّ أولَ آيةٍ نَزَلت منَ القرآن، لمْ تأمر بصَومٍ ولا صَلاة ولا جِهاد، وإنّما أمرتْ بالقراءة، التي هي المِفْتاح لسائر العُلُوم، دينية كانتْ أو دُنيوية نافعة، قال جلّ شأنه: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) سورة: العلق١ – ٤.

وحَثّ الإسلامُ على طَلب العِلْم، لا يقتصر على تحصيل العلوم الشّرعية فقط، بل يشمل كل علمٍ مُفيد لبني الإنسان في حياته، من طبٍّ وهندسة وزراعةٍ وصناعة وغيرها، يدلّ على ذلك إطْلاق لَفظ العِلم، في قوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) طه: ١١٤.

ويَدلّ عليه: ما جاء أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم طَلبَ من زيد بن ثابت رضي الله عنه أنْ يَتعلّم لُغة اليَهود، فعن زَيْدٍ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ اليَهُودِ. قال: حَتَّى كَتَبْتُ لِلنَّبِيَ صَلَّى اللهُ عَليه وسَلَّم كُتُبَهُ، وأَقْرَأْتُهُ كُتُبَهُمْ، إِذَا كَتَبُوا إِلَيْه. رواه البخاري.

– أمّا الأمرُ الثاني: فهو الحُكم الفِقْهي للذّكاء الاصْطِناعي، ويُمكن القولُ بأنّ الذكاء الاصْطناعي كعلمٍ منَ العُلوم الحَديثة لا حَرجَ فيه، طَالما يَخْلو مِنَ المَحظُورات الشّرْعية، وأنّه مِنَ الأمُور المُبَاحة لما فيه منَ المَنافع للإنسانية، وطبقاً لما هو مُقرّر في شريعتنا مِن: أنّ الأصلَ في الأشياء الإباحة والحِلّ، حتّى يأتي دليلٌ على تَحْريمها، بدليل عُموم قوله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) الجاثية: ١٣.

– قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “تَصَرّفات العِباد مِنَ الأقوالِ والأفْعال نوعان: عبادات يَصْلحُ بها دينهم، وعادات يَحتاجون إليها في دنياهم.

فباستقراء أصُول الشريعة: نعلم أنّ العبادات التي أوجبها الله، أو أحبّها؛ لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع.

وأمّا العادات: فهي ما اعْتادَه الناسُ في دُنْياهم ممّا يَحْتاجُون إليه، والأصْل فيه عدم الحَظْر، فلا يُحظر منه إلا ما حَظَره الله سبحانه وتعالى … والعادات: الأصلُ فيها العفو، فلا يُحْظر منها إلا ما حرّمه، وإلا دخلنا في معنى قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا) يونس: 59.

ولهذا ذمّ الله المشركين الذين شَرَعوا من الدّين ما لم يأذن به الله، وحرّموا ما لم يحرمه … وهذه قاعدة عظيمة نافعة “. “مجموع الفتاوى” (29 / 16 – 18).

– وقال رحمه الله تعالى: “لستُ أعْلمُ خِلافَ أحَدٍ مِنَ العُلماء السّالفين: في أنَّ ما لمْ يَجئ دليلٌ بتَحْريمه: فهو مُطْلقٌ غيرُ مَحْجُور، وقد نصّ على ذلك كثيرٌ ممّن تكلّم في أصُول الفقه وفُرُوعه، وأحْسِب بعضُهم ذّكرّ في ذلك الإجماع، يقيناً، أو ظنّاً كاليقين”. “مجموع الفتاوى” (21 / 538).

فكلّ ما هو مَصلحةٌ ومَنْفعة مَطْلوبة للناس، فقد جاءت الأدلة بطَلبه، وكل ما هو مَضرّة ومَفسدة فهو مَنْهيٌ عنه، وتَضَافرت الأدلّة على مَنْعه، فجميعُ أحْكامه سبحانه وتعالى متكفلةٌ بمَصَالح العباد في الدّارين، بل مقاصد الشّريعة ليستْ سوى تحقيق السعادة الحقيقيّة لهم.

– فمِنْ تطبيقات الذّكاء الاصْطناعي مثلاً: الإنْسَان الآلي: وهو آلة مكانيكيّة مُصنّعة على هيئة الإنْسَان، مُبَرْمجة سَلفاً، للقيام بأعْمالٍ مُعيّنة، سواءً في المَنَازل أو المَصَانع أو المَزارع ونحو ذلك، ولها ذَاكرة لاسْتقبال المعلومات، وإعْطائها في مَجالٍ مُعيّن، وغالباً ما تكون الأعْمال التي تُبرمج على أدائها أعْمالاً شاقّة، أو خَطيرة، أو دقيقة، مثل البَحْث عن الألْغام، والتّخلّص مِنَ النّفايات المُشعّة، أو أعْمالاً صناعية دقيقة، أو شاقة ثقيلة.

فلا شكّ في إباحةِ ذلك، لمَنْفعته العظيمة للناس.

مع التنبّه والنّظر إلى النَّصوص التي تُحذّر منْ صَنَاعة التّماثيل، واتخاذ الصّور التي تجسّد الإنْسان، وغيره مِنْ ذوات الروح، وتبين عقوبة مَنْ يُزاول هذا العَمَل، فحُرمة اتخاذ التماثيل، متقرّرة شَرْعا، وأنّها مِنْ أعْظمِ أسْباب الشّرك بالله ربّ العالمين، حيث كانت سبباً في كفر أغْلبِ الأُمَم وأكثرها، فلا بدّ مِن الانتباه له.

إلا ما دَعتْ له الحاجة، مِنْ تعلّم الطبّ ونحوه.

أمّا إنْ كانَ الغَرضُ الذي صُنِعتْ له هذه الآلة غير مُبَاحٍ شَرْعاً، أو يُؤدّي إلى مَفْسَدة، فتكون الآلة مُحرّمة، ولا يَجوز اسْتخدامها فيه.

كصُنْع ما يماثل الرّجال أو النّساء للاسْتمتاع الجِنْسي ونحوه، فهذا لا يَجوز أيضاً.

– كما يفتحُ التقدّم في تقنيات الذّكاء الاصْطناعي الباب: أمامَ إمْكانيّة اسْتنساخ نسخةٍ رقمية لأي شخصٍ بعد وفاته، واسْتخدامها بعد ذلك؟ سواء عبر منَصّات محادثة الذكاء الاصْطناعي، أو ما يُسَمّى بالتّزييف العميق، دُون موافقة الشّخص قبل وفاته؟

ويرى الخبراء أنّ المَواد الرقمية التي يتركها الأشْخاص أثناء حياتهم، وبخاصّة على منصّات التواصل الاجتماعي، ستَجعل مِنَ السّهل اسْتِنْساخ شَخصياتهم رقمياً بعد وفاتهم باستخدام الذّكاء الاصْطناعي؟ بتزييف وتقليد الأصْوات، خاصّة وأن القوانين الحاليّة لا تتعامل مع مثل هذه الممارسات.

وحذّر العَديد من المُختصين في عالم المال والأعمال، مِن أنّه يُمكن لتَطْبيقات الذّكاء الاصْطناعي أنْ تُسهم في تنامي عَمِليات الاحْتيال المالي، وتزْوير البيانات المالية أو الهوية، وذلك مع التّطوّر الواسع الذي تشهده تلك التّطبيقات، وبسبب القُدْرة التي يُمكن أنْ تتمتّع بها في تَحْليل البيانات، واتخاذ قَرَارات مُعقّدة بشكلٍ أسْرع، وأكثر دقةً من البشر، وتقديم بيانات زائفة بشكلٍ مقنع، ممّا يجعل من الصعب اكتشاف الاحتيال.

نسأل الله تعالى صلاح الأحوال والأعمال.

والله تعالى أعلم

زر الذهاب إلى الأعلى